أينما وَلّينا وُجوهنا، ومهما حاولنا أن نتظاهر «مكابرة» أنّ الأمور ليست مغلقة أمامنا، أو أنّ الأبواب مُواربة، أو ما زالت، وأنّها ليست موصدة تماماً، وحينما نذهب، وأينما نذهب، فإنّنا نواجه بالسؤال الآتي:
إلى متى نبقى نُراوح في نفس المكان؟ وإلى متى تظلّ الحالة الفلسطينية على ما هي عليه من هَوانٍ وضعفٍ وهشاشة؟ ولماذا ننتظر منذ سنين طويلة لإيجاد مخرجٍ من هذه الحالة دون أن نجد جواباً شافياً مقنعاً، وقادراً على أن يمثّل حالة استنهاضٍ وطنية، نحن بأمسّ الحاجة إليها؟
والملاحظ على هذا الصعيد أنّ غالبيةً كبيرة من النُّخب المنتمية إلى فصائل العمل السياسي، وأحزابه ومنظّماته، وغالبية أكبر من كلّ هؤلاء من المستقلّين الوطنيين، ومن ذوي الخبرة في العمل الوطني، ومن تراثٍ كفاحي مشرّف، وقطاعات واسعة من الناس ما تلبث تسأل نفس هذا السؤال، بصرف النظر عن طريقة التعبير عن سوء الحالة الوطنية.
وتكاد تكون المرّة الأولى التي بات يُلمس من خلالها أن الانشداد إلى سوء الحالة الوطنية لم يعد مطروحاً من زاوية رؤية هذا الفصيل أو ذاك، أو هذه الجهة أو تلك، وأنّ الاعتبار في السؤال بات «وطنياً»، بمعنى أشمل من رؤية الأحزاب والفصائل والمنظّمات، ومن زاوية أكبر من المصالح الخاصة لهذا الطرف أو ذاك، وهو مؤشّر على درجة أنضج بكثير ممّا كانت عليه الأمور، وأصبح البحث عن «المخرج» مشحوناً للمرّة الأولى ــ برأيي ــ بهواجس وجودية، وتعدّت الأمور في النظرة إلى سوء الحالة الوطنية كلّ أسئلة الانتقالي أو المرحلي أو المؤقّت لتتركّز في الزاوية المصيرية.
ويأتي كلّ هذه التساؤلات في جوّ أو أجواء من الشعور بأنّ التجمُّعات الفلسطينية كلّها باتت على نسقٍ واحد في الإحساس بهذا المصير، وذلك بسبب انكشاف واتّضاح الاستهداف الشامل لهذه التجمُّعات، وبسبب ظهور معالم «تكاملية» في هذا الاستهداف.
وباتت هذه التجمُّعات تستشعر الأخطار المُحدقة بها ليس فقط باعتبارها «حالة خاصة» في إطار مشروع الاستهداف، وإنّما باتت تستشعر هذا الخطر باعتباره «ضريبة إضافية» يدفعها هذا التجمُّع أو ذاك بسبب أولويات مباشرة لمشروع الاستهداف، دون أن يعني ذلك «تخفيفاً» من «الضريبة» التي يدفعها الجميع، أي كلّ التجمُّعات، وذلك لأنّ «تصفية» القضية، أو «حسم» الصراع بشأنها هو القاعدة الأكبر والأشمل للاستهداف كمشروعٍ يعمل المشروع الصهيوني بكلّ قوّته لتنفيذه على الأرض.
عندما نأخذ تجمُّع الشتات مثالاً فإنّ المشروع الصهيوني المدعوم أميركياً و»غربياً» يتمادى في تجفيف مصادر بقاء « الأونروا »، ويحوّل هذا «البقاء» إلى عجزٍ دائم في موازناتها، ويحوّل هذا «البقاء» إلى رهينة لا تتجاوز عدة شهور، لكي يصار بعد فترات من «الخنق المنظّم» إلى «إسعاف» المنظّمة بما لا يتجاوز أبداً سدّ الرمق، أو التنقيط في الحلق.
وعلى الجانب الآخر من الاستهداف يصار إلى تصفية الوجود المادي للفلسطينيين في مخيّمات سورية ولبنان والعراق، أو العمل المنظّم والمدروس، ولكنه «المثابر»، أيضاً، لتحويل هذه «التصفية» إلى «جزءٍ» من عملية واسعة تحت مسمّى «المقاومة» أو مشاريعها وأحلافها أو «الممانعة» أو أي شيءٍ من هذا القبيل الإسلاموي، كما حصل سابقاً في «نهر البارد»، ثم في «اليرموك»، وكما تتتالى فصوله في «عين الحلوة».
وهنا نلاحظ تشابكات غريبة وعجيبة ومريبة ما بين منظّمات «الإرهاب الأسود» ومنظّمات «المقاومة» و»الممانعة»، بخطابٍ واحد وموحّد، وبتغطيات منسّقة تنسيقاً وافياً بحيث يصعب علينا التفريق ما بين الخطابين: «المقاوم» و»الإرهابي».
هذا على صعيد تجمُّع الشتات، فماذا عن تجمُّع الضفّة؟
هنا تتكالب القدرات العسكرية لجيش الاحتلال، والأذرع الأمنية والمستوطنون مع المؤسسة السياسية والحزبية الإسرائيلية في عملية متسارعة من الضمّ الزّاحف، والاستيطان الجارف، ومن التهويد للمدينة المقدّسة والتهديد بهدم مقدّساتها، وتحويل حياة الفلسطيني فيها من مسلميها ومسيحييها إلى جحيمٍ لا يطاق، إن هو جاهر بحقه في الدفاع عنها أو حمايتها أو رعايتها.
وهنا، أيضاً، نحن أمام مخطّطات متتالية ومتسلسلة من التجويع والترويع، من السرقة والنهب، ومن الهدم والقتل، ومن الاستباحة والاجتياح، ومن تقطيع الأوصال ونشر الموت والأهوال.
ويترافق ذلك كلّه مع حملات متواصلة من الاعتقالات اليومية، ومن عمليات الاغتيال والإعدام، ومع عمليات «منظّمة» من الترحيل الصامت في الأغوار وجنوب الضفة الغربية، ومن عمليات أكثر تنظيماً من السرقة «الشرعية» تحت مسمّيات «المناطق العسكرية»، و»المحميات الطبيعية»، أو «المناطق الخاصة» لأسبابٍ أمنية.
باختصار، تعيش الضفة كلّها تحت احتلال كامل، واستباحة أمنية شاملة، وتحت عربدة المستوطنين بحماية جيش الاحتلال وبإشرافه المباشر، وبحيث تتحوّل السلطة الوطنية الفلسطينية إلى مجرّد «بلديات» لا تتعدّى صلاحيّاتها حدود تحمل أعباء الخدمات مقابل فواتير باهظة تخصم من دورها الكياني، ومن مهمّتها الوطنية على طريق «ترسيم هذا الواقع مستقبلاً».
ولا يختلف الأمر في قطاع غزّة، فقد أصبحت إسرائيل تدرك وتعي وتعرف الثمن المطلوب لبقاء القطاع تحت رحمتهم، وتحوّلت « المنحة القطرية » إلى سقفٍ سياسي أعلى، وتحوّل تشغيل عدة آلاف من عمّال القطاع في إسرائيل إلى هدفٍ اقتصادي واجتماعي، وتالياً سياسي لـ»الاستقرار والازدهار وبحبوحة العيش» هناك.
وأصبحت إسرائيل تعرف مواعيد «الإرباك الليلي»، ومواعيد «البلالين»، ومواعيد إطلاق «الصواريخ التجريبية في البحر»، وحتى مواعيد إطلاق «مسيرة من النوع المدرسي» بين الفترة والأخرى بهدف التعجيل بسرعة صرف «المنحة»، بل وأصبحت إسرائيل تقدّر بالضبط متى سيحضر العمادي إلى القطاع، ومتى ستدخل مصر على خطّ التهدئة!
باختصار، يرى أهل القطاع أنّ عملية «مَسْرَحة» «المقاومة» من هناك تحوّلت إلى الروتين السياسي المنتظر في نهاية كلّ مرحلة من مراحل «المنحة القطرية».
ولذلك فإنّ أهل القطاع فهموا أخيراً أنّ عليهم مواصلة دفع فواتير الحصار والتجويع، وأنّ عليهم أن يتعلّموا فنون «الطوابير»، إمّا للعمل في إسرائيل، أو للحصول على بعض أنواع الخدمات، أو للحصول على تأشيرة الرحيل عن القطاع.. وبات أهل القطاع على قناعة كبيرة، وأكبر من أيّ وقتٍ مضى بأنّ مصيرهم ليس إلّا مصيراً صغيراً، مهما كان خاصاً من مصير شعبهم ومن مصير قضيتهم.
وأمّا الأهل في «الداخل» فحدّث ولا حَرَج، فمن قانون القومية إلى الجريمة التي باتت في طريقها للتحوّل إلى «جائحة» سياسية واجتماعية، وإلى عنصرية سافرة في محاولة لتحويل هذا التجمُّع من شعبنا إلى «حمولة زائدة» على الدولة والمجتمع اليهودي في إسرائيل، مع أنّ هذا التجمُّع بالذات هو الأقدر على تحويل هذه «الحمولة» إلى ثقلٍ وفعلٍ سياسي واجتماعي وثقافي من شأنه أن يشلّ المؤسّسة الصهيونية من أركانها عند درجةٍ معيّنة من هجوم العنصرية عليه.
أمام كلّ هذا، فإنّ شيئاً ما لا بدّ أن يحدث، وأنّ حراكاً ما يطلّ برأسه من بين الركام، وأنّ النهوض قادم لا محالة، لأنّ الطبيعة الفلسطينية على وجه الخصوص، لا تكره الفراغ فقط، وإنّما هي طبيعة أثبتت دائماً قدرتها على أن تملأه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد