يقولون في الحروب انه ليس بالضرورة أنّ مَن يبدأ الحرب هو الذي سيُنهيها، بل من يُنهيها أو من يضع حداً لها، هو عادة المنتصر، كما أن كثيراً من المعارك، لم تنته بمنتصر أو بمهزوم، بل توقفت لتؤكد استمرار الحرب، ولعل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المتواصلة منذ 45 أسبوعاً حتى الآن، تؤكد هذه الوجهة، التي ترجح أن القتال المكثف والرهيب ما هو إلا فاصل من حرب مستمرة وطويلة الأمد، مختلفة تماماً عن كل الحروب التي سبقتها، وخاضتها إسرائيل منذ ثمانية عقود مضت، أي منذ إقامتها على أرض فلسطين التاريخية حتى اليوم.

والحروب تنتهي عادة بهزيمة أو استسلام أحد طرفيها، كما حدث في الحرب العالمية الثانية التي استمرت ست سنوات، وانتهت بهزيمة ماحقة للجيش النازي الألماني ودخول القوات الروسية والأميركية للعاصمة برلين، كذلك باستسلام اليابان، أما حروب إسرائيل السابقة مع الدول العربية، فقد بدأت عام 1948، وبعد أشهر قليلة توقفت باتفاقيات هدنة، أبقت على وجود إسرائيل الناشئة، وعلى دول الجوار العربية، بما يعني بأن حالة الحرب لم تنته بذلك الفاصل من المواجهة العسكرية، التي تكررت لاحقاً خلال أعوام 1956، 1967، 1973، ولم تنتهِ إلا مع دولتين عربيتين هما مصر والأردن، بعد توقيع اتفاقيتَي كامب ديفيد 1978، ووادي عربة 1995.

وبقيت إسرائيل في حالة حرب مع سورية ولبنان وفلسطين، رغم توقيع اتفاقية أوسلو، ومع دول عربية عديدة أخرى، رغم أنها لم تحارب إسرائيل من قبل باستثناء مشاركة بعض جيوشها في حرب العام 1948، لكن إسرائيل الآن في حالة حرب ما تزال مع سورية ولبنان، وهي تحتل بعض أراضي الدولتين المجاورتين لها، ومع فلسطين بالطبع، ثم هي الآن في حالة حرب معلنة وفعلية مع كل من اليمن والعراق وايران، وفي حالة انعدام تطبيع حقيقي مع كل الشرق الأوسط، بما فيه تركيا، والسبب كله يمكن في أن إسرائيل تصنع أساس العداء مع محيطها في الشرق الأوسط، ولا تكتفي باختلافها عنه، من جهة الدين والعرق والأصل، لكونها دولةً خلقت بوظيفة في الحرب الباردة، بل هي تواصل إنكار الحق الفلسطيني في دولته المستقلة التي يقول بها ويريدها كل العالم، وثانياً هي تطمح للسيطرة المباشرة وغير المباشرة على الشرق الأوسط كله، وذلك بمنع كل دوله من تحقيق التقدم الاقتصادي ومن الحصول على القوة العسكرية.

هذا مَكمن صراعها مع إيران وتركيا ومصر والسعودية، وكل دول الشرق الأوسط، التي هي بالأصل متعاطفة مع شقيقها الفلسطيني، وهي أيضاً ترى بأن إسرائيل بالذات لعبت وتلعب دوراً مانعاً لطموح الأمة العربية كلها في الوحدة والتقدم، لهذا فإن إسرائيل ظلت في حالة حرب مع المحيط، بغض النظر اندلعت المواجهة العسكرية أم لا، وبغض النظر حتى إن عقدت اتفاقية سلام أو تطبيع مع هذه الدولة أو تلك، وربما ندر في التاريخ كله، أن كانت هناك دولة بمفردها على حالة عداء مع دول عديدة، إلا في حالة الدول التي حاولت أن تسيطر على العالم، مثل المغول، الذين احتلوا معظم آسيا وجلّ أوروبا، وانهزموا، بل وتلاشت دولتهم في آخر المطاف، لكثرة مَن عادت من الدول والشعوب، وحدث هذا مع الإسكندر اليوناني ومع نابليون فرنسا، وحتى مع دولتَي الاستعمار في القرن العشرين: بريطانيا وفرنسا، ثم حدث هذا مع ألمانيا النازية، بعد أن اجتاحت واحتلت شرق أوروبا كله مع فرنسا، فجعلت من شعوب كل تلك المنطقة عدواً لها.

نقول كل هذا بمناسبة الحديث عن آخر جولات التفاوض حول صفقة التبادل بين إسرائيل و حماس لوقف هذا الفاصل من حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وهو فاصل جاء في سياق حرب تطهير عرقي ممارسةٍ في الضفة الغربية منذ نحو 3 سنوات، وبالتحديد منذ آذار من العام 2022، وفق ما سُمّي بكاسر الأمواج، الذي جعل من مدن الضفة الغربية ومخيماتها، خاصة شمال الضفة، جنين و نابلس وطولكم، ميدان حرب يومية، حيث يسقط الشهداء وتدمّر البيوت والمرافق بشكل متواصل، كل ذلك مترافق مع إطلاق المستوطنين المستعمرين لحرب الكراهية والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين، مدعومة بدعم عسكري وإجراءات احتلالية بمصادرة الأراضي وتوسيع الاستيطان الاستعماري لكل الأرض الفلسطينية.

وبالطبع فإن معضلة الصفقة التي يريدها الجانب الأميركي للتخلص من الضغط العالمي، ولأغراض انتخابية، وكذلك الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية، وذلك بسبب فشلهما في تحقيق أهداف الحرب السياسية والعسكرية غير الواضحة أصلاً، وبسبب من إرهاق الجيش، الذي اعتاد على الحروب الخاطفة، وعلى جعل أرض الغير ساحة الحرب، وتجنيب داخله تأثيراتها، وذلك بالضد من إرادة بنيامين نتنياهو الذي يعني توقف الحرب، وليس انتهاءها، خروجَه من مسرح السياسة، وربما يجري سَجنه إما دولياً كمجرم حرب ومسؤول عن إبادة جماعية أو داخلياً بتهم الفساد، لهذا فإن مفاوضات الصفقة التي لم تتوقف، لأنها لم تنجح منذ مطلع كانون الأول من العام الماضي، لأن نتنياهو كان أقوى من جو بايدن، الذي حاول أن يفصل بين التزامه باسرائيل وبين نتنياهو، عبر بيني غانتس حين دخل حكومة الحرب، ثم يوآف غالانت وزير الجيش.

والحقيقة أن بايدن استعاض عن خضوعه لنتنياهو بممارسه خبثه السياسي، وهو المخضرم، فتعلّق بمفاوضات الصفقة، أولاً لأنه ظل يحلم بها لتكون ورقته الانتخابية، ثم حتى يوقف الضغط العالمي الذي يطالب بوقف فوري للحرب، وهذا يعني بأن أميركا بالتحديد هي التي يجب أن توقفها، وذلك بمنع نتنياهو من مواصلتها، من خلال الضغط الميداني الحاسم وليس من خلال الكلام، وبالطبع _نظرياً_ يمكن لأميركا في لحظة أن توقف الحرب، بأن تعلن رفع يدها عن إسرائيل، وأن تأمر قواتها بالخروج من المنطقة، وأن تسمح لمجلس الأمن باتخاذ قرار تحت البند السابع، وتمتنع عن التصويت، إن لم ترغب في الموافقة، ويمكن لأميركا أن توقف الحرب، بترك إسرائيل تواجه قدرها العسكري مع جزء من المحيط المعادي لها، والذي سيبقى كهذا الى أن تتفكك كدولة احتلال وكدولة عنصرية، وهو محور المقاومة، وهو يتكفل بإلحاق هزيمة عسكرية حاسمة وفورية بها، ودليل ذلك هو أنه بإسناد فقط لغزة، وبحرب اسرائيلية مدعومة عسكرية وسياسياً من أميركا وبعض دول الغرب، لم تحقق إسرائيل النصر بعد 45 أسبوعاً.

هذا يعني بأن حرباً يشارك فيها تماماً حزب الله وحماس والحوثي والحشد وإيران، ستعني عكس حرب 67، أي أن إسرائيل ستنهزم فيها في ست ساعات، وحينها ستكون بين خيارين لا ثالث لهما: الأول أن تستخدم قوتها النووية التي ستعني دمار الشرق الأوسط بما فيه هي، وثانيهما، أن تقبل بالتحول إلى دولة داخل حدود التقسيم، دولة مواطَنة مدنية مسالمة، يقبلها الشرق الأوسط، أي المحيط العربي والإسلامي، وفي مقدمة ذلك قيام دولة فلسطين المستقلة.

أي أنه يمكن لو أن أميركا رفعت يدها عن إسرائيل أن يحقق محور المقاومة فوراً، الإرادة الدولية خلال ساعات بفرض انسحاب إسرائيل من الأرض العربية المحتلة كلها، وليس في وقف حربها على غزة فقط، لكن أميركا ما زالت تحاول تضميد جرح المنطقة بالعقاقير المهدّئة، أما محور المقاومة، فإنه يدرك بأن حرب الاستنزاف، التي تتطلب بقاء حماس ميدانياً، وعمليات المقاومة في غزة تقول بأنها ما زالت موجودة، تبقي إسرائيل في حالة حرب، وأن هذا يعني بأنها لم تنتصر، في حين أن هزيمة اسرائيل الأولى ستكون الأخيرة، وهكذا تمضي الحرب على طريق الحسم بالنقاط، حيث تكون الغلبة لمن كان نفَسه أطول، وفي سياق كل هذا فإن إبقاء أطراف محور المقاومة، حزب الله والحوثي وإيران على حق الرد على الغارة على الحديدة وعمليّتَي الاغتيال في الضاحية وطهران، بمثابة حبل الإعدام الذي تم لفّه حول عنق المحكوم به، فيما إطالة أمد شدّه تقتله من الخوف، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، يجري خلال الوقت منح الفرصة للآخرين، فإن نجحوا في وقف الحرب مقابل عدم الرد، ويبدو أن هذه صفقة عرضت من تحت الطاولة، حينها يكون الرد قد تم ويكون أبلغ من الرد الميداني.

أما إن واصل الأميركي التفاوض دون نتيجة، فإن الرد القوي يكون مبرراً، ولهذا فإن متابعة الحديث عن الحق بالرد، يأخذ بعين الاعتبار احتمال الفشل، وكل هذا يعني بأن الحرب تجري على أكثر من مستوى، وفي أكثر من مكان، فيما نتنياهو وقد تحوّل إلى الدفاع السياسي يحاول أن يُبقي على شريكيه الفاشيَّين بن غفير وسموتريتش، بالوصول إلى عطلة الكنيست الصيفية، دون التزام بوقف الحرب، وفقط مع وقف إطلاق للنار، وأكثر من ذلك يحلم بالوصول إلى الانتخابات الأميركية وهو ما زال على قيد الحياة السياسية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد