بعد أقل من ثلاثة أشهر، سيخرج الرئيس جو بايدن من البيت الأبيض بلا رجعة، وسيذكر التاريخ على الأغلب بأن الرجل كان واحدا من أضعف الرؤساء الذين سكنوا البيت رغم أنه سكنه في وقت كانت فيه الولايات المتحدة هي القطب الأوحد في العالم، الذي يقود النظام العالمي بأسره، وسيظهر ضعف الرجل، رغم أنه كانت أمامه فرصة لإنجاز شيء تاريخي خلال أربع سنوات، عند مراجعة شعاراته أو وعوده الانتخابية بما حققه خلال توليه المسؤولية الأولى ليس في أميركا وحدها، بل في العالم بأسره.

وإذا كان ما يهمنا - نحن في الشرق الأوسط - هو القضية الفلسطينية، وما يحيط بها من صراع إقليمي، فإن أول وعود الرجل كان إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس ، لكنه لم يفعل، لأن الجانب الإسرائيلي منعه وأفشله، ثم كان أن حدد هدفه بالعودة للعمل وفق الاتفاق المبرم مع إيران العام 2015، حول مفاعلها النووي، لكن إسرائيل منعته أيضاً وأفشلت مسعاه، رغم أنه ظل يحاول وقتا طويلا ومتواصلا، ثم دخل في مغامرة محفوفة بالمخاطر، حين شجع أوكرانيا على "جر شكل" روسيا، ومن ثم اندلاع الحرب بينهما، على أمل إلحاق الهزيمة العسكرية بروسيا، بما يشمل الإطاحة بفلاديمير بوتين واحتواء روسيا، لتحطيم الصين كمنافس اقتصادي حقيقي لأميركا، لكن العكس هو ما حدث، رغم انشغال روسيا وتضررها الاقتصادي، إلا أن نديتها وتحديها لأميركا تعزز، وعزز معه مكانة مجموعة "بريكس" الدولية.

وربما كان الإنجاز الوحيد لبايدن هو سحب قواته العسكرية من أفغانستان، بعد نجاح قطر في إبرام اتفاق أميركي - أفغاني، لكن كيفية خروج تلك القوات على وقع استعراض قوة لطالبان، أظهر الخروج مذلا ومهينا، على شكل الهزيمة، ثم جاء شن حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة ، لا لتظهر الضعف الشديد لبايدن كرئيس، بل لتقطع الطريق على طموحه الذي ظهر بعد إقامته في البيت الأبيض، بالبقاء أربع سنوات أخرى، والحقيقة أنه لم تكن المناظرة مع ترامب هي السبب الحقيقي في اضطراره للانسحاب من السباق الرئاسي، بعد أن ظفر فعلا بترشيح حزبه الديمقراطي، لكن كان السبب هو ظهوره كرئيس ضعيف للغاية في التعامل مع بينامين نتنياهو رئيس حكومة التطرف الفاشي الإسرائيلية، طوال أشهر تلك الحرب الإجرامية.

فلم ينجح بايدن في إقناع أو إجبار نتنياهو على أي شيء مما طالبه به، رغم كل الظروف المساندة والمساعدة له، وذلك في ظل رأي عام دولي، وتظاهرات عارمة حتى في أميركا، بل وفي ظل احتجاجات إسرائيلية داخلية ضد مواصلة نتنياهو للحرب، وصولا إلى خلافات داخل الكابينيت الإسرائيلي نفسه، إن كان حين كان بيني غانيتس وغادي ايزنكوت مشاركين فيه، ومن ثم انسحبا احتجاجا على مماطلة نتنياهو ومواصلته الحرب بدافع مصالحه الشخصية السياسية، أو حتى اليوم بين نتنياهو وكل أركان المؤسستين العسكرية والأمنية، أي مع وزير الجيش يوآف غالانت ورئيس الأركان هيرتسي هاليفي، ورئيس الموساد دافيد برنياع، ورئيس الشاباك رونين بار، ومنذ البداية ظهر بايدن، كما لو كان لعبة بين يدي نتنياهو، وكثيرا ما عبر بايدن عن "إحباطه" من رئيس الحكومة الإسرائيلية، دون أن يظهر كرئيس قوي في مواجهته.

منذ البداية لم يستوعب بايدن أن تستمر الحرب أكثر من بضعة أشهر، وكان يعتقد بأنها ستتوقف بعد بضعة أسابيع، وتحديدا أقل من ثلاثة أشهر، أي حتى نهاية العام الماضي، لا تكون خلال هذه الفترة قد تراكمت التداعيات والاحتجاجات والمواقف الدولية ضد الحرب، كما حدث فعلا، خاصة قبل أيار الماضي، التاريخ الذي شنت فيه القوات الإسرائيلية الحرب البرية على رفح، آخر معقل للنازحين، من كل مدن قطاع غزة، ثم إن بايدن طالب نتنياهو منذ البداية بتحديد الأهداف السياسية والعسكرية للحرب، دون جدوى، بما في ذلك خطة اليوم التالي، كما أنه طالبه بتجنب استهداف المدنيين، لأظهار أنه لا يقوم بحرب إبادة جماعية، ولا يهدف إلى تهجير الناس وإعادة احتلال قطاع غزة، لكن نتنياهو لم يستجب، وما زال المدنيون يسقطون في قطاع غزة حتى اليوم بمعدل يومي مئة شهيد وما بين مئتين إلى خمسمائة جريح، أي مجازر يومية هي جرائم حرب دون أدنى شك، وطالب بايدن نتنياهو بإدخال المساعدات الإغاثية، ولا حياة لمن تنادي، وظهرت أميركا كدولة صغيرة عاجزة، أو كدولة كاذبة مضللة.

ثم كان أن ألقى بايدن بثقله وبجل جهد إدارته وراء متابعة صفقة التبادل التي نجحت جزئيا ولمرة واحدة في آخر تشرين الثاني الماضي، في إطلاق بعض المحتجزين مقابل وقف لإطلاق النار لمدة أيام، وإطلاق سراح أسيرات فلسطينيات، وطوال كل هذه الأشهر فشل بايدن في إقناع أو إجبار نتنياهو على الاستجابة للصفقة، التي بدت مهمة جدا لبايدن، خاصة حين كان مرشحا رئاسيا، حتى تكون ورقة إعادة انتخابه، وما زال يحاول، مع عجز غير مفهوم، حيث يمكنه أن يلوح بضغط حقيقي على نتنياهو ويجبره على وقف الحرب، لكنه حين حاول من خلال تأجيل إرسال القنابل التي تزن أكثر من طن لإسرائيل، ندد به نتنياهو، ولم يقو بايدن على رد الصاع صاعين لرئيس حكومة إسرائيلي فاشي ومتطرف، ويواجه صدا دوليا ومعارضة داخلية متعددة المستويات والأشكال، وهكذا ظهر بايدن بأنه في إصراره على متابعة مفاوضات الصفقة، دون أن يقوى على إجبار نتنياهو على قبولها، خاصة في صيغتها التي قدمها بايدن بنفسه وأخذ عليها موافقة مجلس الأمن في أيار الماضي، ظهر بايدن كعراب لنتنياهو، يقود متوالية مفاوضات خادعة حول صفقة التبادل، بهدف تحييد مجلس الأمن واحتواء الاحتجاجات العالمية على مواصلة حرب الإبادة ومواصلة ارتكاب المجازر اليومية والتجويع الجماعي المستمر.

كما أن بايدن حاول أن يؤثر على نتنياهو بأضعف ورقة إسرائيلية، في نظر القانون الدولي، وحتى بما يخص الموقف الأميركي نفسه، وهي مواصلة إسرائيل الضغط على السلطة في الضفة الغربية لإضعافها وفق مستويين، الرسمي بمواصلة احتجاز أموال المقاصة، بل وابتداع كل شهر اقتطاعات إضافية، والمستوي الثاني ميداني بمتابعة الاجتياحات العسكرية وقتل الشبان والمواطنين، مترافقة مع إطلاق العنان لعربدة المستوطنين، وفقط حاول بايدن أن يلوح بمواقف رمزية ضد بعض المستوطنين الذين يرتكبون الجرائم الصريحة، ولم يقو بايدن على أن يمنع المستوطنين المحميين بإيتمار بن غفير، من قطع الطريق حتى على شاحنات الإغاثة الأردنية التي تمر عبر إسرائيل إلى قطاع غزة، وبدا بايدن وأميركا بشكل مضحك حين قاما بابتداع الميناء العائم، وذلك لتجنب إجبار إسرائيل على فتح المعابر، خاصة معبر كرم أبو سالم و معبر رفح ، أمام الشاحنات المكدسة في الأراضي المصرية، لأنها عاجزة عن الدخول لقطاع غزة.

هكذا ظهر بايدن طوال أشهر الحرب على غزة، ضعيفا في مواجهة نتنياهو، الذي تكمن خطورته في خضوعه بدوره، لابتزاز وتحكم بن غفير وسموتريتش الفاشيين به وبحكومته، بما ينذر الشرق الأوسط بحرب إقليمية طاحنة، وبما بات خطرا على العالم بأسره.

لقد فات القطار بايدن، ليس فيما يخص بقاءه في البيت الأبيض، ولكن حتى فيما يخص قدرته على مساعدة حزبه للبقاء في موقع الرئاسة، وإذا كان لقاء الدوحة هو الفرصة الأخيرة أمام صفقة التبادل، فإن المقدمات ترجح أن تفشل، وخيرا فعلت حماس أولا بإعلانها موقفا حادا، من عدم التفاوض مجددا، على إطار وضعه بايدن نفسه، وقال هو إن الإطار مقترح إسرائيلي أصلا وهو الإطار الذي وافق عليه مجلس الأمن، وهكذا فإنه يمكن القول إن بيان الثلاثي الوسيط الذي حدد قبل أسبوع يوم أمس كموعد لمواصلة التفاوض حول الصفقة، لم يؤد إلى نتيجة سوى المساهمة مع الحشد العسكري الأميركي في تأجيل الرد الإيراني على اغتيال الشهيد إسماعيل هنية ، أما بايدن فإننا ننصحه بعمل أخير يقوم به، وهو أن يسلم البيت الأبيض اليوم قبل الغد لنائبته كامالا هاريس، لعل ذلك يكون عامل حسم لدخولها البيت الأبيض من الباب الواسع، ولإبقاء الحزب الديمقراطي في السلطة أربعة أعوام أخرى.

أما أميركا، فإنها خلال سنوات قليلة قادمة، سترى بأم عينها أن روسيا والصين قد أسقطتا نظامها العالمي، وأن إسرائيل كانت سببا رئيسا في ذلك، إن كان من خلال تأليب شعوب العالم ضدها، أو من خلال زج أكبر دولة في العالم في صراع تحاول من خلاله إسرائيل أن تحقق حلمها الإقليمي، وأن الفاشية الإسرائيلية كانت سببا في أن تسير إيران وتركيا على طريق روسيا والصين، كقطبين ندين لإسرائيل في الشرق الأوسط، كما هو حال روسيا والصين كندين دوليين لأميركا على الصعيد العالمي.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد