كثيرة هي تفاصيل الإنجاز المصري ببناء القناة الجديدة، إن كان ذلك على الصعيد الهندسي المتخصص أو على صعيد الفترة الزمنية الإعجازية بكل المقاييس.
وكثيرة أيضاً هي المدلولات التي ينطوي عليها هذا الإنجاز الإعجازي إن كان لجهة التحديات الأمنية أو الاقتصادية الاجتماعية التي مرّت على مصر في السنوات القليلة الماضية.
وكثيرة هي الأبعاد السياسية لهذا المشروع العملاق في هذه الظروف بالذات.
كل هذه المدلولات والأبعاد وكل ما لها من تبعات على مختلف المستويات أصبحت اليوم في متناول الجميع، وأصبحت المعطيات حول دور القناة الجديدة في دعم الاقتصاد المصري والمشروع التنموي المصري متداولة على نطاق واسع ليس على الصعيد المصري والعربي بل وعلى مستوى العالم بأسره.
لكن الوجه الآخر لهذه الأبعاد والمدلولات ربما يكون هو الأهم في قراءة المشهد المصري مع افتتاح القناة الجديدة.
البعد الحاسم والمدلول الأعظم في هذا الإنجاز هو أن لدى مصر قيادة وطنية مخلصة وحازمة ومتفانية.
يستطيع أي مراقب منصف ونزيه أن يلحظ بسهولة ويسر ـ إذا كان متحرراً من المواقف الفكرية والسياسية المسبقة ـ ان الرئيس المصري يمتلك مواصفات قيادية رفيعة، وهو اليوم يتحول بصورة تلقائية إلى زعيم قومي كبير. في هذا الإطار يبدو أن المعلومات التي رشحت إلى بعض الأوساط الإعلامية من أن الرئيس يعمل بصورة متواصلة لأكثر من ثماني عشرة ساعة في اليوم هي معلومات صحيحة بل ودقيقة أيضاً. كما بات معروفاً أن الرئيس يحب شعبه ويثق به.
كما لا يستطيع أي مراقب محايد أن ينكر الزخم والمتابعة والمثابرة التي يعمل بها المهندس محلب رئيس الوزراء.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك الروح التي تعمل بها القوات المسلحة بما تنطوي عليه من انضباط ودقة ومحاسبية عالية، فإن مصر في الواقع تعيش في فترة انتعاش قيادي لم تشهده منذ سنوات الناصرية الصاعدة.
لقد بثت القيادة المصرية الجديدة روح التحدي وروح المواجهة بدلاً من الاتكالية، وروح الإنجاز والإبداع بدلاً من روح الرتابة البيروقراطية والانتظارية المقيتة التي تفرزها الدورة الروتينية المكتبية.
البعد الثاني هو أن هناك قدرة تخطيطية مذهلة، وان لدى الإدارة العريقة في مصر احتياطات هائلة كانت تنتظر القدرة القيادية على استثمارها وإعادة زجها في معركة التنمية الوطنية على الرغم من حالة الترهل التي كانت تبدو عليه هذه الإدارة في العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية.
النجاح الباهر الذي تكلل به مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي من زاوية حشد الموارد ومن زاوية أولوية القطاعات، وكذلك من زاوية النتائج المباشرة والمتوسطة والبعيدة في رؤية المؤتمر كانت «البروفة» الأولى والمقياس المفتاحي للحكم على هذه القدرة التخطيطية لكن مشروع القناة الجديدة انتقل بهذه القدرة من مستوى إلى مستوى جديد، أعلى وأعمق وأكبر وأهم. في الواقع نحن كنا أمام سيمفونية رائعة من تكامل الأدوار بين الفرق الفنية والهندسية للقوات المسلحة وقطاع الأعمال والشركات الكبرى من جهة وبين تعميق الحفر الجاف و»التكريك» وبين ضبط المساحات المائية في إطار التصميم الهندسي للقناة الجديدة. وسيذكر التاريخ للفريق مميش ورجاله هذا الإعجاز.
العمل تم على مدار الساعة، والفرق العاملة بدءاً من الحراسة والأمن وحتى أعقد الأعمال الهندسية كانت توصل النهار بالليل وكأن هذه هي طبيعة الأشياء.
البعد الثالث هو إعادة الاعتبار لمبدأ الاعتماد على الذات. إن الدرس القاسي ولكنه الضروري والمفيد الذي تعلمناه من المصريين وهم يقفون في طوابير متراصة للمساهمة في تمويل قناتهم الجديدة كان درساً رائعاً على كل حال.
الفكر الليبرالي الجديد ومدارس الرأسمالية المتوحشة بثت على مدار سنوات روح الانهزامية في الشعوب المتطلعة نحو الانعتاق والتحرر.
قبل مشروع القناة كانت «مسألة» الاعتماد على الذات تبدو وكأنها حالة حالمة، حالة طوباوية ورومانسية فكرية وسياسية طائشة.
اليوم تبدو هذه المسألة أنها مسألة ممكنة، وواقعية وان الروح الوثابة للشعوب ليس لها حدود غير عنان السماء عندما تقتنع هذه الشعوب بصواب الاتجاه وبمشروعية الهدف، وعندما تلمس في خلفية كل ذلك وطنية خالصة وإخلاصا وطنيا أصيلا.
لقد وجه المصريون ضربة قاسية للاعتماد على الغرب والارتهان له بل ولحصر هذا الارتهان في جهات معينة من هذا الغرب.
وعندما تكون الثقة بالنفس ليس مجرد شعار، وعندما تكون هذه الثقة هي في موضع الرهان الأول تتحول في ظروف التحدي التاريخي إلى قوة دفع هائلة بل وتتحول إلى طاقة إبداع استثنائية، وهذا هو بالضبط ما حصل مع المصريين.
أعظم وأهم ما تنطوي عليه أية فكرة أو سياسة أو ممارسة هو فيما إذا كانت تعبر بالإنسان إلى المستقبل.
قناة السويس الجديدة مشروع عملاق في كونه معبراً نحو مستقبل مصر ونحو دور مصر ومهابتها وقيادتها لأمتها الكبيرة، ومحور السويس هو محور النموذج المصري القادم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية