تكذب إسرائيل بقضها وقضيضها، أي بيمينها ويسارها، بحكومتها المتطرفة ومعارضتها التي هي أقل قليلاً من الحكومة في تطرفها، حين تطلق ادعاءات حول نتائج اتفاقيات التطبيع التي سبق لها أن عقدتها قبل ثلاثة أعوام، أو حتى ما تحلم بتوقيعه مع السعودية من اتفاق تراه هي أو تريده استكمالاً لحلقات التطبيع الإبراهيمي السابقة، وتراه السعودية شيئا غير ذلك، أي اتفاقا مختلفا، والسعودية بمكانتها لا تلتحق بأحد، بل تشق طريقها، وتقود غيرها، وهذا ما تقر به إسرائيل بحكومتها ومعارضتها، حين تتحدث عن أن اتفاق السلام مع السعودية سيجر دولا إسلامية وعربية أخرى، ذلك أنه إذا كانت اتفاقية أبراهام مع الإمارات والبحرين قد جرت لاحقا كلا من المغرب والسودان، فإن اتفاقا مع السعودية قد يدفع دولا مثل اندونيسيا، ماليزيا، بنغلاديش، وهي دول إسلامية مهمة، جيبوتي، جزر القمر، الصومال، وحتى موريتانيا وهي دول عربية إلى الالتحاق به هي أيضا.

وسبق لإسرائيل أن قالت هذا حين عقدت اتفاقيات كامب ديفيد العام 1978 مع مصر، وهي أكبر دولة عربية، وادعت أن الصراع العربي/الإسرائيلي قد انتهى، وأن عصر الحروب التي كانت تقودها على الجانب العربي مصر، بين إسرائيل والدول العربية قد انتهى، لكن إسرائيل نفسها شنت حرب العام 1982 ضد لبنان واحتلت جنوبه، حتى وصلت قواتها العاصمة بيروت، وكانت تلك أول سابقة، حين احتلت بيروت لوقت من الزمن، ولم تنسحب من جنوبه، ومنت النفس بالاحتفاظ بجنوب لبنان حتى الليطاني، لولا أن المقاومة اللبنانية التي قادها حزب الله طردتها منه، وكانت قبل طرد قواتها في حرب تموز 2006 قد وضعت جيش لبنان الجنوبي، بقيادة سعد حداد ثم أنطوان لحد، كحاجز سمته الحزام الأمني بينها وبين المقاومة.

ورغم أن إسرائيل ليست وحدها في المنطقة، ورغم أنها تمثل جذر حالة التوتر وباعث الحروب في الشرق الأوسط، نظرا لكونها أقيمت بشكل مصطنع، ومن ثم تكونت بطبيعة عدوانية، وبأحلام توسعية ما زالت تداعب خيالها، إلا أنها ليست الباعث الوحيد للتوتر الإقليمي فهناك مصالح ومعتقدات وطموحات مختلفة لدول المنطقة، التي تضم شعوبا وقوميات وطوائف مختلفة ومتباينة، لكن إسرائيل بالذات تضع أنفها في كل شاردة وواردة في الإقليم، لأنها تريد أن يعاد فكه وتركيبه ومن ثم تشكيله على هواها، أي وفق مطامعها ومصالحها الأمنية والسياسية.

وهكذا كانت لإسرائيل يد من تحت الطاولة في الحرب العراقية - الإيرانية، ومن ثم في الحرب الغربية على العراق، وصولا لإسقاط نظام صدام حسين، ومن ثم تابعت طريقها ضد إيران، وبعد توقيع اتفاقيات أوسلو، لم تتوقف إسرائيل عن ممارسة احتلالها لفلسطين، بل شنت حربا شاملة ضدها العام 2000، وما زالت تواصل فصول إعادة الاحتلال بالكامل، وسد الطريق أمام حل الدولتين، وبعد اتفاقيات أبراهام، اتضح تماما، أن تلك الاتفاقيات لم توقف نهم إسرائيل الاحتلالي والتوسعي، بل على العكس تماما، دفعتها لإغلاق كل أفق أمام الحل السياسي، ودفعتها لحث الخطى بتسارع نحو ضم الأرض الفلسطينية المحتلة، وكل هذا يعني شيئا واحدا، لا ثاني له، وهو أن أي اتفاقيات توقعها إسرائيل مع الآخرين تبتعد بها وبعموم المنطقة عن السلام، لأن السلام يتطلب الضغط على إسرائيل حتى إجبارها على الانسحاب من أراضي الغير التي احتلتها وما زالت تحتلها بالقوة العسكرية منذ أكثر من خمسين سنة، وحتى تكف عن مواصلة أحلامها بالمزيد من التوسع على حساب الآخرين، أي الجيران القريبين والبعيدين أيضا.

وحين فشلت إسرائيل ومعها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في فرض صفقة العصر، ادعت أن ثمن أبراهام هو تراجعها عن ضم أجزاء من الضفة الغربية، لكن اجتياحاتها لمدن الضفة لم تتوقف، وهي بدلا من الإعلان عن ضم أجزاء من الضفة، زادت من وتيرة الاستيطان، وهي تقوم بالضم الفعلي لكل الضفة الفلسطينية، كما أن السلام يجد طريقه فقط بعقد الاتفاقيات مع الخصوم، وبين الأطراف المتحاربة، وليس بين إسرائيل ودول عربية وإسلامية لا حالة من الحرب بينها وبينهم، وكل ما تسعى له من محاولات التطبيع مع الدول العربية والإسلامية فرادى أولا، ومتجاوزة لفلسطين ثانيا، هو التفرد بكل من يقاوم احتلالها وطموحها باحتلال المزيد من أراضي الغير.

بكلام آخر نقول إن إسرائيل تتجاهل وجهة السلام الحقيقية التي تكون بين المتحاربين، وهي بدلا من السعي لحسن الجوار مع الجار الأقرب، تذهب لمن هو أبعد، وهذا ما هو إلا وهم، وهي فعلت هذا منذ نشأت العام 48، حين كانت مرتبطة بالغرب الأوروبي والأميركي بعلاقات خاصة جدا، لكنها ظلت في حالة حرب متواصلة مع جيرانها، لأنها هي من يحتل أرض الغير.

هذه هي الحقيقة التي تتجاهلها إسرائيل بحكومتها ومعارضتها، وتفضحها تقاريرها الأمنية التي تتحدث عن خمس جبهات ضدها، لا تقوى على مواجهتها معا، وهي تعد هذه الجبهات بكل وضوح، ودون لبس: غزة ، الضفة، لبنان، سورية، وإيران، وأخيرا باتت ترى في الداخل جبهة أخرى، كتحريض على المواطنين من غير اليهود، وبشكل عنصري، وحتى بين اليهود علمانيين ومتدينين، ولا تجيب عن السؤال الذي مفاده: لماذا هذه الجبهات مناهضة لإسرائيل؟

طبعاً أولاً هي تتجاهل أن سبب عدائها لغزة هو محاصرتها للقطاع ومنع الهواء والدواء والحياة الطبيعية عن مليوني إنسان، ادعت أنها توقفت عن احتلالهم وأنها انسحبت من أرضهم منذ ثمانية عشر عاما، لكنها تجد لنفسها الحق في التحكم بحياتهم وسجنهم بشكل جماعي وبشكل يتناقض مع كل القيم الإنسانية، كذلك هي تتجاهل سبب مقاومة الضفة الغربية لاحتلالها الذي طال أولا، وبقي رغم أن الحرب التي أدت له أي حرب العام 67، قد انتهت منذ عقود، خاصة بعد كامب ديفيد 78، وهي تتجاهل السبب في اعتبار جبهة لبنان عدوة لها، وهو استمرار احتلالها لبعض الأرض اللبنانية، ومحاولتها فرض إرادتها على لبنان، بالتدخل في شؤونه الداخلية، في محاولة منها لتجريده من قوته العسكرية المتمثلة بسلاح حزب الله.

وإسرائيل وبكل صفاقة لا تتحدث عن غاراتها التي لا تتوقف على سورية، ولماذا تعتبرها جبهة معادية، وهي تحتل بعض أرضها، أي الجولان، ورغم أن سورية منهمكة بعد حروب داخلية أكلت أخضرها ويابسها، فتسمح لنفسها باستباحة أجوائها وأرضها وقصف ما تراه مناسبا من مدنها ومواقعها في كل الأرض السورية، كذلك هي تعتبر إيران عدوة، لا لسبب سوى أنها ترى في إيران خصما إقليميا، يقف في طريق طموحها بفرض السيطرة على كل الشرق الأوسط، وتعتبر أن سعي إيران الشرعي لامتلاك الطاقة النووية، ما هو إلا محاولة لامتلاك السلاح النووي، رغم أنها هي - أي إسرائيل - تمتلك ذلك السلاح منذ عقود، ورغم أن المجتمع الدولي بقواه العظمى قد عقد اتفاقا بالخصوص مع إيران العام 2015، لكن إسرائيل استخدمت نفوذها على البيت الأبيض في عهد ترامب ودفعت أميركا للتنصل منه، ثم قطعت الطريق على جو بايدن لإعادة العمل بالاتفاق، وأعلنت مرارا وتكرارا أنها لن تلتزم بأي اتفاق أممي مع إيران بالخصوص.

مجمل القول، إن إسرائيل باحتلالها أولا، وبطموحها الإقليمي ثانيا، بصرف النظر إن كانت الظروف تسمح لذلك الطموح لها باحتلال أراض أخرى، بعد الاحتفاظ بما هي تحتله حاليا، أي الضفة الفلسطينية والجولان السوري والغجر اللبناني، هي باعث التوتر الإقليمي وهي التي تدفع المنطقة لاستمرار الحروب، وهي تذر الرماد في العيون، حين تسعى لعقد الاتفاقيات مع دول عربية وإسلامية ليست ذات شأن بحالة الحرب بينها وبين جيرانها، وحري بها بدلا من السعي لعقد اتفاقات التطبيع مع السعودية وأي دول أخرى، أن تسعى إلى عقد الاتفاقات مع فلسطين ولبنان، سورية وإيران، لكن إسرائيل حتى تفعل ذلك ستكون بحاجة إلى إرادة تاريخية وليس لحسابات انتخابية داخلية خاصة بها وبالولايات المتحدة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد