عندما كان المفكر الشهيد فتحي الشقاقي يُنظّر لفكرة الثورة الإسلامية مؤسِساً لمشروع "الجهاد الإسلامي" في فلسطين بعد عودته من مصر إلى فلسطين في بداية ثمانينيات القرن العشرين، تصدى له بعض قيادات التيار الإسلامي التقليدي مستهزئين بمفهوم الثورة كفكرة وممارسة، وقالوا إنَّ الثورة مؤنث الثور، أي الأنثى من البقر، وأنَّه لا يوجد في الإسلام ثورة، وبذلك فهي بدعة تؤدي إلى الضلالة والتهلُكة، وكفى الله غير المؤمنين بالثورة من شر التفكير والإبداع، ومشقة المقاومة والنضال، أمّا المؤمنون بالثورة بقيادة الشقاقي فمضوا في طريق الثورة والمقاومة من خلال مشروع "الجهاد الإسلامي" ليكون طليعة لمشروع المقاومة والتحرير في فلسطين.

أصحاب نظرية "الثورة أُنثى الثور" غير المؤمنين بالثورة في فلسطين في نفس الوقت آمنوا بها في أفغانستان مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وتبنوا مشروع الثورة المنقولة جواً بعيداً عن فلسطين بواسطة الخطوط الجوية الأمريكية الموجهة صهيونياً إلى كل الاتجاهات ما عدا فلسطين، وكانت (ثورات الربيع العربي) فرصة لتجديد الفكرة من خلال اجتهاد أولوية قتال (المرتدين والرافضة) على (الكفار الأصليين)، وفي إطار هذه الفوضى الفكرية استمعت قبل سنوات في ذروة الأحداث السورية لأحد أصحاب نظرية (الثورة أُنثى الثور) والمنظرين للثورة في أفغانستان سابقاً، وكان عنوان اللقاء يتعلق بـ(ثورات الربيع العربي)، فتحدث عن (الثورة السورية) وأولوية الثورة فيها وتدفق (المجاهدين) إليها لإقامة دولة الخلافة الإسلامية التي ستحرر فلسطين.

قد يُردُّ هذا الاضطراب في فكرة الثورة إضافة إلى فوضى المفاهيم وغياب المنهج عند بعض تيارات الحركة الإسلامية إلى أنَّ الثورة مفهوم حديث في الثقافة العربية أسقط على ظواهر سياسية مختلفة، فقد أُطلق على حركات التحرير الوطني العربية من الاستعمار الأجنبي الغربي الذي امتد على مساحة الوطن العربي، واستخدم مفهوم الثورة لشرعنة الانقلابات العسكرية على الأنظمة الحاكمة في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر للاستيلاء على السلطة من قِبل العسكريين، وسُميّت بالثورة موجة الاحتجاجات الشعبية العربية ضد الأنظمة الحاكمة منذ عام 2011م قبل أنْ يركبها التكفير الصحراوي الموّجه بـ (الريموت) الصهيوأمريكي.

اضطراب مفهوم الثورة عند بعض الإسلاميين، وحداثة نشأة المفهوم في الثقافة العربية، واختلاطه بمفاهيم تراثية أُخرى كالفتنة والتمرد والخروج، وتعدد الظواهر السياسية المسماة بالثورة كالمقاومة الوطنية والانقلابات العسكرية والاحتجاجات الشعبية... لا يعني عدم وضوح فكرة الثورة كظاهرة إنسانية، فالثورة كفكرة إنسانية تسبق العمل الثوري وتوجهها لتكون البوصلة التي تحدد هدف الثورة، والكشاف الذي ينير طريق الثوار، والفكرية الثورية تكون بالنسبة للشعب الثائر الروح التي تسري في جسده، والدم الذي يجري في عروقه، والمصباح الذي يُضيء له دربه نحو الحرية.

فكرة الثورة أصّل لها الأدب العالمي في كثير من الروايات التي وثقت ثورات الشعوب، ومنها: رواية (سبارتكوس.. ثورة العبيد) للأديب الأمريكي هوارد فاست، فقد كتب عن ثورة العبيد في الإمبراطورية الرومانية القديمة، وفكرة الثورة عن سبارتكوس الذي قاد العبيد للثورة بعد أنْ زرع فيهم فكرة إمكانية انتزاع حريتهم بقوة الإرادة والوحدة والسلاح وقدرتهم على تحطيم روما مركز الاستبداد لبناء عالم جديد بدون عبودية. ورواية (البؤساء) للأديب الفرنسي فيكتور هوجو، فقد كتب عن الثورة الفرنسية من خلال فكرة الثورة التي آمن بها البؤساء بعدما آمنوا بإمكانية تغيير واقعهم السيء بالثورة وساروا باتجاه حلمهم بمجتمع أفضل يسوده الحرية والإخاء والمساواة، وليس بينهم وبين الحرية سوى أن يُشاركوا في معركة الثورة ليكونوا أحراراً.

ورواية (الأم) للأديب الروسي مكسيم غوركي وثقت فكرة الثورة الروسية البلشفية المُجسّدة في حلم البؤساء التخلّص من الفقر والجوع والمرض ليعيشوا حياة إنسانية أفضل، وما عليهم سوى إدراك دورهم في عملية التغيير الثوري التي تتضمن عمليتي الهدم والبناء، هدم سلطة المُترفين وبناء سلطة الكادحين. ورواية (الحرافيش) للأديب المصري نجيب محفوظ ناقش في جزئها العاشر فكرة الثورة من خلال عمل بطل الرواية عاشور الناجي الثاني في تخليص الحرافيش من فكرة انتظار المخلّص الفرد إلى فكرة البطولة الجماعية كفكرة ثورية جعلتهم ينهضون للقيام بدورهم في التغيير الثوري والإطاحة بفتوّة الحارة المستبد وانتزاع حريتهم وكرامتهم وحقوقهم المسلوبة.

إذا كانت الفكرة الثورية هي الأساس والمنطلق لكل ثورات الشعوب التي وثقتها الروايات العالمية فإنَّ فكرة الثورة في رواية المأساة الفلسطينية المستمرة منذ النكبة هي الإيمان بحلم التحرير والعودة إلى فلسطين، وهو الحلم الذي يُلّخص مضمون المشروع الوطني الفلسطيني، وهدف الحركة الوطنية الفلسطينية، وبوصلة الثورة الشعبية الفلسطينية، وجوهره الإيمان بحتمية تحرير فلسطين بوسيلة الحرب الشعبية طويلة الأمد وعمودها الفقري الكفاح المُسلّح وقد وثقته أدبيات الثورة الفلسطينية ومنها أناشيد الثورة التي ركزت على فكرة التحرير والعودة ووسيلة الكفاح المُسلّح، مثل: إليك نجيء يا وطني، جايينك يا فلسطين، قادمون أجل قادمون، بالمقاومة، أعطيني جعبة وبارود، يا فدائي خلي رصاصك صايب... وغيرها.

هدف تحرير فلسطين بوسيلة الكفاح المُسلّح ومرجعية الإسلام الثوري المقاوم هو جوهر فكرة الثورة التي أبدعت مشروع "الجهاد الإسلامي" ونقلت الحركة الإسلامية الفلسطينية إلى فكرة الثورة ونهج المقاومة، الذي يُطبق عملياً في كل فلسطين خاصة ما يحدث الآن في الضفة الغربية من مقاومة مسلحة متواصلة، وشكلت إضافة نوعية للحركة الوطنية الفلسطينية بعد أن بدأت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية تبحث عن الصلح مع العدو والحل المرحلي في نظريات الواقعية الثورية، وتبحث عمن يشتري الثورة بثمنٍ بخس دولة منقوصة الأرض والسيادة ثم سلطة تُقايض المقاومة بالمال، وهو ما حدث مؤخراً في الصفقة بين السلطة والاحتلال برعاية واشنطن متجاهلة نصيحة الشاعر المصري الثائر أمل دنقل بعدم الصلح مع العدو وبيع الثورة بسلطةٍ منقوصة ومالٍ مشبوه في قصيدة عنوانها (لا تصالح)، ومطلعها: لا تُصالح.. ولو منحوك الذهب.. أترى حين أفقأ عينيك.. واثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى؟.. هي أشياءٌ لا تُشترى".

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد