لا يشغل الفلسطينيين في غزة سوى متابعة ما يجري من مفاوضات أزمنت، ليس سوى لأنها تمثل العودة للحياة من الموت ووقف القتل اليومي ووصول المواد الغذائية والعودة إلى ما تبقى من بيوتهم واحتضان من تبقى من أبنائهم بلا خوف، هي الأمل الوحيد الذي يتعلق به الغزيون بعد أن فقدوا الأمل بأي وقف لهذه المحرقة الرهيبة، لا من المجتمع الدولي ولا العرب ولا المسلمين ولا قوة حماس قادرة على إحداث توازن فقط، بقيت الهدنة قشة الغريق الوحيدة.

كم هائل من الأخبار المتفائلة بدأت منذ عشرة أشهر مع أول جولة مفاوضات قبل رمضان واستمرت مصاحبة على مدار الأشهر الماضية، وفي كل مرة تقلب إسرائيل ورئيس وزرائها الطاولة على رأس الجميع وأولهم وزير الخارجية الأميركي بلينكن الذي دائم التبشير بصفقة منذ أشهر والوسطاء وحركة حماس التي كانت تدرك عمق الأزمة التي دخلتها وانسداد مخارجها وأن كل المخارج عالية الكلفة.

العارفون بإسرائيل روحاً وليس نصاً يدركون حجم الضربة التي تلقتها إسرائيل في السابع من أكتوبر.

فلم تكن الضربة في الأطراف بل في الروح وأن ردة الفعل الإسرائيلية ستكون صارخة، وأن إسرائيل وجيشها سيهدمون غزة ويلاحقون حركة حماس ولن يتوقفوا قبل تدمير كل شيء، وأن إسرائيل لن تقبل بأن يكون لحماس حكم في غزة وأنها ستقوم بتعذيب الغزيين الذين اتهمتهم وسائل إعلامها «بالاحتفال بالحدث» ومعنى ذلك كله أن إسرائيل لن تتوقف ولن توقف الحرب وهو ما كان شرطاً للتهدئة أو الهدنة أو الصفقة.

إسرائيل تحترف التلاعب بالمفاوضات ليس فقط لخبرتها العالية كما فعلت في مفاوضات أوسلو وجرجرة الوفود الفلسطينية وها هي الآن تجرجر حركة حماس مثلها مع ضغط عسكري يقوم بتطهير عرقي وإبادة، بل لأنها تتفاوض مع مسدس في الرأس ولديها من القوة ما يكفي لممارسة تلك اللعبة.

تقوم بعملية تفاوضية مستمرة تقوم فيها بعصر حركة حماس وفي كل جولة تطالب الحركة بتقديم تنازلات وما أن تفعل الأخيرة حتى تُفشل إسرائيل الجولة تمهيداً لجولة جديدة تكون ما قدمته حماس في المرة السابقة قد أصبح خلف ظهور المتفاوضين تهيئة لتنازلات جديدة وهكذا ... لكن في أثناء ذلك تقوم بتدمير القطاع وتطهير السكان وتعذيبهم كما كان يقول نتنياهو لتغيير وعيهم.

لم تفهم حماس بعد أن إسرائيل تريد منها الاستسلام، وهو ما أشار إليه الخبير الأكثر تخصصاً في الملف الفلسطيني ميخائيل ميلشتاين حين قال إن مسح بيت حانون وجباليا كان يجب أن يدفع حماس لتقديم التنازلات ليستدرك قائلاً: يبدو أننا لا نفهم الـ DNA الخاص بحماس.

لكنه لا يدرك أن خيار حماس بالاستسلام قد يكون مخرجاً لكنه يعني موت الحركة وهذا لا يمكن أن تقدم عليه.

لا تكمن صعوبة الصفقة في وقف الحرب الذي كان عقبة الأشهر الماضية والذي تنازلت عنه حماس، لكنها تكمن في أن نتنياهو لا يريد صفقة تخدش صورة النصر الذي وعد الإسرائيليين به وتتعزز تلك وسط المنافسة الداخلية الشديدة وتراجع حصة الائتلاف في الرأي العام والحفاظ على تماسك الحكومة يقول بتسلئيل سموتريتش: إن جيش إسرائيل سيبقى في غزة وهذا يعني أن أي مرونة يبديها نتنياهو ستضع حكومته على المحك لكن الأمر يتجاوز الرغبة الشخصية في دولة تسعى لإعادة نفسها كدولة إقليمية وقوة كبرى قادرة على سحق خصومها وما حدث مع حزب الله أعطاها هذا القدر من النشوة.

فرصة صفقة قبل وصول ترامب تبدو سيناريو أقل حظوظاً من سيناريو عدمها ليس سوى لأن نتنياهو وحكومته إذا كانا يرغبان بها أصلاً يعتقدان أن إسرائيل ستحصل على صفقة أفضل بعد تسلم ترامب، الذي أصدر ما يكفي من الدعم لإسرائيل مهدداً حركة حماس «بالجحيم» إذا لم تطلق سراح الأسرى فلماذا يسارع نتنياهو إلى الموافقة عليها ؟

وأمام هذه المعطيات يبدو أن القطاع يدخل عنق زجاجة أكثر صعوبة وتبدو الحلول بعيدة، نتنياهو يجعل الأمور أكثر صعوبة وحماس لم تقرأ تجارب التاريخ بأن المفاوضات هي انعكاس طبيعي لميزان القوة على الأرض وأن نتنياهو يستغل عدم إعلانها بشكل واضح عن انتهاء حكمها لاستمرار سحق القطاع واستمرار الإبادة وهي الطرف الضعيف بلا قوة حقيقة ولا حليف، وقد آن الأوان للتفكير بهدوء. فحزب الله الأكثر قوة أدرك طبيعة المعادلة فعليها أن تدرك هي أيضاً دون تعليق آمال على صفقة لأن نتنياهو لن يخدش ما يقوله عن الانتصار ولن يقبل بصفقة يقدم فيها تنازلات وخصوصاً بعد أن تحولت البيئة الإقليمية في صالحه على صعيد المحور وما حدث له وعلى الصعيد الأميركي وانتخاب ترامب وتهديداته بالجحيم، على حماس أن توسع دائرة استشاراتها ليبحث الجميع عن مخرج يحفظ ماء الوجه أما استمرار هذه المقتلة فلم يعد ممكناً، أعرف أن هذا كلام صعب لكنه الحقيقة المرة التي تتجسد أمامنا والحقيقة ابنة الواقع وليست ابنة الأحلام.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد