تأسيسا على ما ذهبنا إليه من ضرورة اعتماد المدخل (الذي كان لا بدّ منه) فإن البدء بالحالة المصرية في قراءة اتجاه الإقليم العربي ـ إضافة إلى قراءة الاتجاه في الحالتين، الإيرانية والإسرائيلية ـ لا يعود للأسباب التقليدية المعروفة عن حجم مصر ودورها التاريخي وإنما يعود بالأساس وإضافة إلى الأسباب التقليدية إلى الدور المحوري لحركات الإسلام السياسي في مصر وإلى «عراقة» تطرف الإسلام السياسي فيها، بل وإلى الجذور المصرية العميقة لنشوء وتطور وانتعاش قوى الإرهاب والتطرف الإسلاموي والذي أدى من بين ما أدى إليه إلى درجات معينة من تمدد ظاهرة التطرف وانتشارها من مصر إلى خارج الحدود ربما يصل ويتصل بهذا الامتداد والانتشار إلى معظم بلدان الإقليم العربي بدون استثناء أو يكاد.
كما تعود أهمية وضرورة البدء بالحالة المصرية إلى سببين إضافيين لا يقلان أهمية عن العوامل السابق الإشارة إليها: الأول طبيعة الدولة المصرية، وأما الثاني فهو الدور الخاص والمميز لطبيعة دور القوات المسلحة فيها.
وفيما يتعلق بالإسلام السياسي في مصر فإن أكبر تنظيم سياسي لفصيل إسلامي، والأصح القول (إسلاموي) وهو جماعة الإخوان المسلمين منذ انتقالها من مرحلة ما يعرف بمرحلة الدعوة إلى مرحلة التنظيم (في نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن الماضي تدشّن في الواقع المصري ثم العربي العهد الجديد والذي تمثل بإقامة التنظيم السياسي وأصبح الدين مع هذا التحول شأناً سياسياً على يد هذه الجماعة وأصبحت الدولة موضوعاً خاضعاً «لرؤية» الدين الذي هو بالأساس بات موضوعاً سياسياً.
أما المجتمع (كموضوع) من مواضيع الدين والسياسة القائمة عليه والدين القائم عليها فقد بات مطلوباً إعادة «بنائه» وفق منظور تلك العلاقة بالذات، وأصبح الوعي السياسي المطلوب لإحداث التغييرات الجوهرية هو الوعي الذي يغيّر في طبيعة الدولة، وفي معايير التصنيف الاجتماعي على أسس دينية قبل أية أسس أخرى وسابقة على أية أسس أخرى، وأصبحت السياسة الحقيقية هي السياسة التي تحقق وتحدث هذه التغيرات.
منذ ذلك التاريخ الذي أشرنا إليه أُخرج الدين من دائرة الرسالة والقيم وتم إقحامه في دائرة المصالح على اختلافها وتعارضاتها وكل منظومات الصراع فيما بينها.
كان العلامة العبقري والمصلح الفذّ محمد عبده قد لاحظ إرهاصات هذا التحول الخطير في استخدام الدين وتوظيفه سياسياً من خلال قراءته لمسيرة تطور المجتمعات العربية والإسلامية منذ منتصف العهد الراشدي ولهذا أبرز محمد عبده هذا التخوف في مقولته الشهيرة: «والله ما دخل الدين في السياسة إلاّ وأفسدها وما دخلت السياسة في الدين إلاّ وأفسدته».
الجوهري هنا هو أن مصر والعالم العربي لاحقاً ومن هذه الزاوية على وجه التحديد تكون قد دخلت في مرحلة جديدة وهي مرحلة الإسلام السياسي المنظم والقادم لتغيير شامل في بنية الدولة والمجتمع.
والجوهري هنا، أيضاً، هو أن الموقف الحقيقي للجماعات الجديدة بات يتوقف منذ هذه اللحظة عند هذا الهدف، وكل تحالف أو صدام أو صراع مع أية جماعة سياسية أخرى أو أية مؤسسة وطنية أو اجتماعية يتحدد بدرجة تسهيل أو إعاقة هذه القوى للوصول إلى ذلك الهدف.
ولأن مقالة بهذه الدرجة من الاختصار لا يمكنها تغطية مراحل نمو وتطور منظومة الإسلام الجديد في مصر فإننا سنحاول اختزال تلك المراحل والتركيز على مفاصل رئيسية منها.
دخلت جماعة الإخوان المسلمين في صدام مع كل شخصية ليبرالية قبل الثورة الناصرية واستخدمت «التنظيم الخاص» لارهابهم، دخلت في صدام مباشر مع الثورة الناصرية بمجرد إعلان الثورة على قيمها السياسية والاجتماعية وتوجهاتها القومية.
وبعد مرحلة التراجعات التاريخية من مبادئ الثورة الناصرية دخل الإخوان في مرحلة تحالف مؤقت مع جماعات الانفتاح وعقدت «حلفاً» مؤقتا مع الرئيس الراحل أنور السادات مستفيدة من أموال النفط العربي ومن حاجة السادات لشرعية ما من الإخوان (دولة الإيمان) في مواجهة الحركة الوطنية المصرية.
عندما رفض السادات الخضوع لهدف الإخوان قتلوه ودخلوا في مرحلة جديدة عنوانها ملتبس إلى أبعد الحدود:
تحالف مغلّف بأشكال من الصراع أو صراع مغلّف بأشكال من التحالف طوال فترة حكم مبارك وذلك وفق طبيعة المعركة ونوع القضية وملابساتها.
في مرحلة مبارك كان الإخوان أعداء للفساد وهم جزء منه، وكانوا مع العدالة الاجتماعية وهم واحدة من آليات إفقار الشعب المصري، وكانوا مع تحرر الدولة من التبعية وهم يتمنون كل تبعية تأتي عن طريقهم وبوسائلهم، وكانوا مع التوريث مقابل صفقة كاملة وكانوا مع الارهاب للضغط على الدولة دون أن يتورطوا مباشرة فيه وكانوا مع جوهر التطرف بأشد مصطلحات الاعتدال.
في عهد مبارك تحول الإخوان من تنظيم اجتماعي إلى قوة سياسية وتحولوا من قوة سياسية إلى سطوة اجتماعية وكان «التنظيم الخاص» على صلة مباشرة بكل أنواع الجهاديين التكفيريين تمهيداً لمراحل قادمة كان الإخوان يرونها قادمة لا محالة.
صحيح أن الدولة المصرية قصمت ظهر الارهاب لكن الصحيح، أيضاً، أن الإخوان وجناحهم القطبي كان يتسلل إلى قيادة الجماعة بصورة متسارعة وهو الأمر الذي مهد لعملية في غاية التعقيد وهو دخول الإخوان إلى ساحات التطرف والارهاب ودخول جماعات الارهاب والتطرف إلى «مناطق الضواحي» لنشاطات الإخوان.
كان هذا هو الواقع عشية ثورة الخامس والعشرين من يناير والتي ستعالج تداعياتها ودور الجماعات الإسلامية فيها وصولاً إلى ثورة الثلاثين من يونيو وما تبعها من تحولات كبيرة.
ونأمل في مقالة قادمة أن نتمكن من تغطية هذه المساحة في محاولة قراءة الحالة المصرية وأثرها على مسار الإقليم العربي.
وسنحاول أن نكشف (لكي نوضّح) أن الإسلام السياسي هو في موقع التطرف، وفي موقع الإرهاب «إذا لزم الأمر» وأن افتراق ظاهرة التطرف بين فصيل إسلاموي وآخر هي من حيث الجوهر افتراق أو فارق في الدرجة وليس في النوع، وان قيام دولة عربية ديمقراطية فيها درجة معيّنة من الحريات وسيادة القانون وفيها قدر أكبر من التنمية العادلة مسألة خارج نطاق المشروع الإسلاموي برمّته، بل وان مثل هذه الدولة وهذا المجتمع مستهدفان بصورة مباشرة ومطلوبان للملاحقة والمطاردة والإقصاء قبل أية استهدافات أخرى.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية