الأزمة الوطنية التي تتمظهر بأشكال مختلفة من التفكك، الذي بات يمسّ وحدة النسيج الاجتماعي؛ جوهرها غياب المشروع الوطني الجامع، والإصرار على محاولات تغييب الديمقراطية والتعددية، واستمرار سياسة إقصاء كل من له رأي آخر، الأمر الذي بدأ يفعل فعله في تغييب المؤسسة والبنية الوطنية الجامعة، التي سبق وجعلتها منظمة التحرير الفلسطينية الخيمة التي تضم الجميع، بل والائتلاف الجبهوي العريض الذي تنضوي في إطاره كافة فئات وقوى الشعب الفلسطيني، بما في ذلك القيادات الوطنية المستقلة عن الفصائل، لكنها في معظم الأحيان أكثر انتماءًا لفلسطين من قادة الفصائل أنفسهم. كما أن مفهوم القيادة والتمثيل تَكرَّس في الوعي الوطني العام، ليس فقط بالائتلاف الجبهوي العريض بصورة مجردة، بقدر ما تجسد بالدور الكفاحي الذي لعبته مكونات هذا الائتلاف مجتمعة، وكل منها على حدة، في الدفاع عن المصالح اليومية والأساسية للناس، وفي مقدمتها رفض ومقاومة الاحتلال.

ما يجري اليوم في فلسطين وفي تجمعات بلدان اللجوء والشتات، غير مسبوق، بما في ذلك مقارنة مع مرحلة شتات ما بعد النكبة ، التي سرعان ما رد عليها الفلسطينيون بمحاولات توحيد شتاتهم وتجمعاتهم لرفض النكبة ومقاومة تداعياتها. فما تواجهه الحالة الفلسطينية من تفكك يصل حد الانهيار. نعم، إنه الانهيار بالمعنى الحقيقي للكلمة، فالانهيار الجاري بدأ فعليًا بتخلي القوى المهيمنة على المشهد العام عن دورها المفترض أساسًا كقيادة تمثل الشعب بالدفاع عن مصالحه المباشرة والوطنية، وانجرافها في استعصاء منزلقات الانقسام بهدف "الفوز" الفئوي في الصراع الداخلي على التمثيل، الذي يؤمّن لهذه الأطراف المنقسمة مصالحها الشخصية والفئوية، وفي كثير من الأحيان على حساب المصالح الوطنية والعقد الاجتماعي الذي بات يتآكل. ذلك كله هو الذي يفسر مظاهر الفلتان والعنف المجتمعي الناجم عن تغييب الشعور بالعدالة وتهميش السلطة القضائية، التي باتت "ديوانًا سلطويًا" لتفصيل حاجات الحكم، وليس أداة العدل لمنع تغوّله على حقوق المواطنين.

المال والسلطة مقابل الأمن

ما سبق وكرسته "اسرائيل نتنياهو" في جذب وتوفير المال لحكم حماس لتكريس انقسامها عبر الوسيط القطري، يتوسع اليوم، ويتحول لاستراتيجية، للأسف باتت مقبولة من طرفي الانقسام، في معادلة المال مقابل الحفاظ على انقسام يتيح لطرفيه الهيمنة على سلطة كل منهما لحماية الأمن الاسرائيلي.

الحريق الذي يمتد لطاقة الناس على الاحتمال، ويقوض يوميًا من قدرتهم على الصمود والبقاء في مواجهة المشروع الاستيطاني، الذي لن يكتفي في النهاية سوى بتغييب الفلسطيني، وليس فقط حقوقه الوطنية. هذا الحريق يأتي بفعل هيمنة مفهوم السلطة لمجرد حماية المصالح الفئوية للمهيمنين عليها، على حساب المصالح العامة والوطنية، التي تتذرر بفعل غياب الشعور العام بوجود أي قيادة تمثل الناس وتدافع عن مصالحها. هذا الأمر تفسره وتؤكده نتائج "الانتخابات المحلية المجتزأة" في بعض بلدات وقرى الضفة المحتلة، ورفض مجرد إجراء أي انتخابات في قطاع غزة .

الشعب الفلسطيني الذي اجترح المعجزات على مدار قرن من الصراع الدامي واليومي، في مواجهة مخططات ومؤامرات تصفية حقوقه، لن يستسلم. ببساطة، لأنه يدرك تمامًا أن وجوده واستمرار حياته وبقائه في هذه البلاد هو المستهدف. ومن المستحيل أن يقبل آجلًا أم عاجلًا ببقاء هذا الحال كما هو عليه. وهو يدرك من تجربته الغنية أن إمكانية النهوض الشعبي من كبوته منذ انطلاق الثورة الفلسطينية، مرورًا بالجبهة الوطنية والانتفاضة الكبرى وغيرها من الانتفاضات على مدار عقود، كانت رافعته الأساسية الوحدة الوطنية التي تحمي التعددية وتحتكم للديمقراطية، الأمر الذي يجري النكوص عنه راهنًا.

لست متأكدًا اذا كان هناك متسعًا للرئيس عباس من المبادرة الفورية لمعالجة تداعيات الانهيار، وهي خطوات معلومة، جوهرها وضع الجميع أمام مسؤولياتهم للعمل الجاد لاستعادة الوحدة والديمقراطية واحترام التعددية، التي تعيد للمواطن مكانته وحاجته الماسّة للحكم الرشيد القادر على توفير مقومات الصمود، باعتبارها الأولوية المركزية لأي نظام سياسي جدي في المرحلة الراهنة. ولكنني على ثقة بقدرة الشعب على بلورة جبهة إنقاذ وطني تعيد نضاله الطويل والمعقد لمساره الأساسي من أجل حرية الوطن والعدالة والديمقراطية.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد