أسوأ ما في النقاش حول لوحة بانكسي التي ملأت صورها مواقع التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار أنه يركز حول الكيفية التي استغل فيها أحد الصحافيين حاجة صاحب المنزل الذي رسمت اللوحة على ما تبقى منه – الباب - واشترى اللوحة بثمن بخس.
وتم حصر النقاش حول ملكية اللوحة بين الطرفين وحول «الخديعة» الكبرى التي تمت في السيطرة عليها.
ويمكن للمرء أن يظن أنه يقرأ تفاصيل فيلم بوليسي تدور أحداثه في مكان ما في زوايا الكون بعيدة عن عالمه، حيث يتم تصوير عملية البيع والشراء والظروف الغامضة التي تمت بها، ويتم الاستشهاد بآراء القانونيين والفنانين ليس حول قيمة العمل المسلم بها، بل حول ملكيته وشرعية ما تم.
بالطبع فإن ثمة إثارة يتقصدها الصحافي في الكثير من الأحيان حيث يتم تسطيح النقاش بغية كسب قلق القارئ المؤقت لما يتم صياغته.
وإذا كانت نشرات الأخبار تبحث عن القوالب التي يمكن لها أن تشد المستمع والمتابع، فإن صياغة النقاش حول ملكية لوحة بانكسي ليس إلا صورة أخرى من صور التجهيل التي تتم ممارستها في الصحافة حيث يصار بقصد في مرات كثيرة إلى الحديث عن القشور فيما يظل الجوهر غائباً تحت طبقة سميكة من الجهل والتغييب.
فالنقاش المثار الذي يمكن ببراءة القول إنه صدفة يعكس حالة الصحافة وسعيها وراء الاثارة ولو على حساب المنجز والمتراكم المعرفي والمكتسبات العامة التي تساهم في تعزيز الهوية والثقافة الوطنية.
وربما باستثناء تقرير الزميل سامي أبو سالم على وكالة «وفا» والذي كان قد لفت الانتباه لوجود هذه اللوحة المهمة فإن الكثير من التقارير الصحافية وقعت ضحية الإعجاب وإثارة الفضول، ولم تغص عميقاً في جوهر النقاش الغائب حول الملكية الحقيقية لمثل هذه التحف والمقتنيات الفنية. ولا يخرج هذا عن النسق العام الذي يتم تداول الأخبار عن غزة فيه، إذ يتم تقديم المدينة التي تتعرض للعدوان تلو الآخر وللحصار المستمر بوصفها مخبزاً للأخبار الدسمة حول القتل والتشريد والدمار والصراخ. وفي ذلك يتم تغييب كل شيء آخر: تغيب الحياة ويغيب الفن وتغيب طباع الناس الذين يصبحون مجرد أرقام في معادلة انتاج الأخبار. هكذا تمت معالجة الأمر.
فالحقيقة أن مثل هذه الأعمال الفنية ذات القيمة العالية لا يمكن لها أن تكون ملكاً لفرد بعينه، ولا يمكن أن تكون ميراثاً يمكن بيعه خصوصاً أنها لم تكتسب أهميتها عبر الزمن أو من خلال شرائها في مزاد علني، بل هي اكتسبت قيمتها من حقيقة وجودها ضمن لحظة وطنية عامة وسياق وطني أشمل وأوسع من مجرد حقيقة أنها رسمت على باب منزل فلان أو علان، إذ إنه كان يمكن لها أن توجد على أي باب آخر. بمعنى أن حقيقة وجود ملكية غير موجود أصلاً، إذ إن مثل هذه الملكية لم تتحقق وفق أصول الملكية المتعارف عليها ويجب ألا تتم معاملتها وفق هذه الأصول من أساسه.
فالملكية الحقيقية بالتالي غائبة، وهي بوصفها جسدت لحظة مهمة من تاريخ الشعب الفلسطيني في غزة وأدانت بطريقة فنية وبقسوة تثير الرعب الهجوم البربري على شعبنا، وشكلت صرخة فنية تثير الهلع لأنها تكشف حقيقة وبشاعة ما يحدث، لا يمكن لها أن تكون والأمر كذلك ملكاً لشخص بعينه، لأنه صدف أن اللوحة وجدت على بقايا بيته، أو أن تتم شرعنة سرقتها بمبلغ زهيد تحت بند التعاقد الحر والشريف بين المالك والشاري.
إذ إن حقيقة الملكية نفسها لم تتحقق كما أسلفنا، وبالتالي لا يوجد شيء قابل للبيع هنا. لأن ثمة فرقا بين المقتنيات الفردية والموجودات الوطنية، واللوحة المشار إليها بحكم ما ترمز إليه من دلالات هي من الموجودات الوطنية وليس من المقتنيات الفردية.
وعليه فعلى الجهات الرسمية أن تتحفظ على اللوحة وتعيدها إلى مكانها دون أن تكون ملكاً لأصحاب البيت. حتى بعد الانتهاء من إعادة إعمار المنطقة يجب نصب اللوحة في مكان بارز كإشارة على الهمجية التي قامت بها إسرائيل بحرق غزة وبحرق بقية المدن الفلسطينية منذ النكبة حتى اليوم، أو أن يتم نقل اللوحة في مكان عام – متنزه أو حديقة أو متحف. غاية القول إن اللوحة التي تبكي فيها الإلهة «نيوبي» غزة يجب أن يتم الحفاظ عليها كعمل فني وطني يتم استخدامه في تعزيز الدفاع الفلسطيني أمام جرائم إسرائيل وفضحها باستخدام الفن وأدواته المختلفة.
يبدو من الجهل استصراخ وزارة الثقافة الفلسطينية التي لم تبذل جهداً طوال قرابة ثماني سنوات للتدخل لانقاذ الثقافة في غزة، بل إنها أمعنت في تغييب غزة عن أجندتها وكأنها لا تقع ضمن اختصاصها.
أنا من الذين يقولون إنه يسهل للمرء وخاصة المسؤول أن يسوق ألف عذر، لكن المسؤول تحديداً ليست مهمته تقديم الأعذار بل إيجاد الحلول.
وعليه فإن الصراخ والقول تدخلي يا وزارة الثقافة، أو حتى اصدري بياناً أو موقفاً يبدو وكأنه سوء فهم لفهم الوزارة حول دورها في غزة وطبيعة تدخلها الذي لم يتم من قبل.
هل تذكرون قصة تمثال أبولو الذي عثر عليه أحد الصيادين في بحر غزة وكيف قامت مجموعة بعرضه للبيع على الانترنت.
لا أحد الآن يستطيع أن يقول لنا إن هذا التمثال في مكان آمن وأنه فعلاً تم تحويله للملكية العامة.
من الواضح اننا بحاجة لسياسات ثقافية قادرة على حماية التراث والفن والمنجزات حتى لا تتعرض في ظل الانقسام وعدم إنجاز المصالحة إلى ضحية ومجرد رقم آخر من أرقام الضحايا.
كأننا نسينا أن فنان الجرافيتي العالمي بانكسي ترك مجموعة أخرى من اللوحات على ركام البيوت المهدمة في غزة لا أحد يعرف أين مصيرها الآن. وباستثناء الاثارة التي أحدثها نشر الخبر في شباط الماضي فإن أحداً لم يعد يهتم بهذه اللوحات التي يجب توظيفها في كشف جرائم الاحتلال وفي تخليد لحظات البطولة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية