تبدو الحلبة السياسية الإسرائيلية كأقطاب المغناطيسات شديدة التلاقي وشديدة التنافر، كل منهم لديه ما يكفي من القوة، وأيضا كل منهم مثخن بجوانب ضعف شديدة.


والذي يحدث هو أن المتنافرة هي من تحاول الاقتراب لكنها سرعان ما تقفز بعيداً بلا نتيجة.


يمكن وصف نتنياهو بأنه خليط من القوة والضعف، عرف كيف يستغل نقاط قوته بدهاء ولكن جميعها لم تستطع أن تغطي الثقوب التي تملأ واقعه ومستقبله، فهو سيد اللعبة كلها في إسرائيل ولكنه لا يستطيع تشكيل حكومته.


وأما خصمه السياسي الذي استولى على ما يكفي من الأصوات ليمنع كتلة اليمين من تشكيل حكومة وحدها، منافسا قويا، لنتنياهو وهو بيني غانتس فقد تحطم.


وبالرغم من الضربة التي تلقاها وقضت على مستقبله السياسي إلا أنه الوحيد القادر على إنقاذ نتنياهو والوحيد القادر على إيداعه السجن.


هكذا تبدو العملية مناورات بين الأشد قوة والأشد ضعفاً، يراهنان بكل أدواتهما يدفعان الأمور إلى حافة الهاوية ثم يسحبانها للوراء فتعود المفاوضات لتبدو كأنها قاب قوسين أو أدنى من حكومة ثم تعود قاب قوسين أدنى من انتخابات.


وهكذا نفس اللعبة يتغير شكلها من عام ونصف العام بانتخابات ثم حل للكنيست ولعبة جديدة بلا حكومة.


لو جرت الانتخابات هذا الأسبوع سيحصل الليكود على 40 مقعداً وكتلة اليمين على 64 مقعداً وستشكل الحكومة، أي أن نتنياهو سيشكل حكومته التي يحلم مستعيداً زعامة تعرضت للتآكل خلال العام ونصف العام الماضيين، وهذا ربما ي فتح شهية الليكود للتصلب في المفاوضات مع حزب "مناعة إسرائيل" الذي يقوده غانتس والذي انشق عن التحالف.


ولكن من يضمن من هنا حتى الانتخابات لو جرت في الرابع من آب القادم أن الأرقام ستبقى كما هي، وأن تطورات الوباء لن تطال أداء نتنياهو ، وأن الاقتصاد الإسرائيلي الذي تعرض للشلل والخسارات لن تبدأ آثاره بالوصول لكل بيت، وأن كل ذلك سيتحمله نتنياهو ويدفع ثمنه وتتبخر كل تلك الأحلام؟ هذا وارد. فإسرائيل السياسية في حالة حراك وانزياحات دائمة.


وبالمقابل فإن أي انتخابات قادمة هي مريحة لليكود بعد أن تمكن من القضاء على خصمه اللدود الذي وقف قبالته وتجاوزه في الانتخابات قبل الأخيرة، وهو الجنرال الذي وقف على تجمع "أزرق - أبيض".


فهذا الخصم سيذهب للانتخابات القادمة بوصفه "الخائن" الذي يقبل بالتعايش مع الفساد والذي كذب على الجمهور عندما تحدث عن الشفافية والقانون والنزاهة لكنه في لحظة ما تسلل كاللص إلى مخدع نتنياهو وسلم نفسه له.


الأمور ما زالت معقدة والحلول تبدو مؤلمة للجميع، الكل يتربص بالكل وكل منهم يريد أن يطيح بالآخر وأن يهدر دمه السياسي، ولا أحد لديه من القوة ما يمكن أن يناور وأن يصطف جانبا بارتياح سواء في الحكم أو المعارضة أو القوائم التي خارج اللعبة.


الجميع في نفس المركب المأزوم ولا حل، وحتى الحلول التي يحاول رئيس حزب "يوجد مستقبل" يائير لابيد" مع شريكه موشيه يعلون غير مقنعة. إذ يبدو للوهلة الأولى أنه يقدم حلاً ولكنه حتما كفيل بالقضاء على مستقبل نتنياهو وهذا الأخير ليس مغفلا.


يقدم لابيد وشريكه مبادرة على شكل قانون بأن يتم تجميد كل شيء لسته أشهر للتفرغ لمواجهة الوباء المتفشي ولتستمر الحكومة القائمة برئاسة نتنياهو لستة أشهر، وبعدها يحدث ما يحدث سواء بانتخابات أو اتفاق وإن كان هذا مريحا للوهلة الأولى لنتنياهو ولكنه في الحقيقة حبل إعدامه، حيث إن الأشهر الستة القادمة والتي يعمل فيها الكنيست بكامل صلاحيته تكون قد أتمت حياكة المشنقة لنتنياهو وسن قانون منعه من الترشح.


لكن غانتس الأشد ضعفاً يملك ورقة قوة كبيرة جداً يهدد بها ولن ينتظر اقتراح لابيد حيث يعطي إنذارا حتى يوم غد إذا لم يقدم الليكود التنازلات المطلوبة سيتقدم بصفته رئيسا للكنيست بدعوته لمناقشة قانون منع نتنياهو من رئاسة الوزارة. ولكن المسألة وإن كانت تبدو للوهلة الأولى سهلة بالنسبة لغانتس لكنها ليست بتلك الدرجة.


فمن يضمن أورلي ليفي أبي قسيس ابنة الوزير الليكودي السابق دافيد ليفي التي انشقت عن تحالفها مع العمل وميرتس لتعلن تأييدها لنتنياهو؟


ومن يضمن أيضاً تصويت عضوي الكنيست اللذين انشقا عن تحالف "كاحول لافان" لصالح القانون.


فلم يعد بني غانتس الذي أصبح رئيس الكنيست بفضل خيانة الرفاق وأصوات الليكود ذلك النجم اللامع بل انطفأ وهجه، وليس هناك ضمانة لأي شيء وخصوصا أن المسألة بالنسبة له تقف على الحافة، فالمعارضون لنتنياهو هبطوا بعد أورلي ليفي إلى 61 وهو الحد الأدنى المطلوب لذا تبدو الخطوة ليست مضمونة.


غانتس الجنرال فقد أكثر من نصف جيشه في المناورة الأخيرة، ولا يستطيع خوض حروب أكثر لأن ليس أمامه سوى الهزيمة في أي معارك أو انتخابات قادمة، ونتنياهو الذي ظهر كمناور بارع لكنه أصيب بالإعياء لأن الاصرار والعناد والتصرف كمنتصر سيدفعه للسير في طرق وعرة ليست معبدة بل مزروعة بالألغام والتي قد ينفجر أحدها في وجهه ويصيبه بمقتل، كل المسألة تبدو معقدة. فكيف سيكون المخرج؟


الأزمة الدستورية في إسرائيل ليست وليدة العام ونصف العام الأخيرين، وهي بدأت بخلاف بين ليبرمان العلماني ويهدوت هتوارة الديني ثم استدرجت النظام السياسي إلى هذا المنحدر، وهي أزمة تتراكم منذ ثمانينيات القرن الماضي منذ أن أصبحت القوى الدينية بيضة قبان للحكومات ثم أخذ الانزياح الاسرائيلي تجاه اليمين الديني والقومي، تغيرات كثيرة شهدها المجتمع الاسرائيلي وجدت تعبيراتها في النظام السياسي ليقف عند هذه النقطة، وإذ تبدو كل الخيارات ثقيلة على الجميع وفي مرحلة عض الأصابع من سيصرخ أولاً؟ ربما يتضح شيء ما إذا ما نفذ غانتس تهديده أو أن نتنياهو سيخضع أم أن هذا الأخير يخبئ كحاوٍ ماهر أرنباً جديداً؟!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد