منذ ابرام صفقة التفاهمات ما بين حركة  حماس والاحتلال الإسرائيلي برعاية أممية وقطرية ومصرية، في منتصف نوفمبر 2018م، فإنه بذلك تكون قد أُعلن عن البدء الفعلي في البحث عن تطوير تلك التفاهمات وصولاً للتهدئة، والتي تُعد المرحلة الأولى من مراحل الوصول إلى الهدنة طويلة الأمد والممتدة لخمس سنوات أو أكثر، وهو ما أكدته إسرائيل من خلال اجتماعات للمجلس الوزاري المصغر " الكابينت" لمناقشة مقترحات مصرية للهدنة، وهو ما نفته حركة حماس في غزة خلال الأيام الماضية.

الطريق إلى الهدنة في غزة مرت بعدة مراحل بدأً بالتفاهمات وصولاً للتهدئة، وأخيراً الهدنة، في ظل سباق غير معهود من السلطة الفلسطينية على رفض أي شكل من أشكال الهدنة أو التهدئة المكتوبة بين حماس وإسرائيل، لأن ذلك يُعد خلق كيان سياسي مُعترف به من إسرائيل في قطاع غزة، يعزز فرص الانقسام وصولاً إلى الانفصال عن الشرعية الفلسطينية في قطاع غزة.

تسعى الأطراف الإقليمية لتطوير التفاهمات بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي وصولاً إلى تهدئة مُعلنة طويلة الأمد، تساهم في تسكين قطاع غزة، كي تستكمل إسرائيل خطط بناء الجدار الخرساني على الحدود الشرقية لقطاع غزة، وكي تتفرغ قواتها للعمل على الحدود الشمالية اللبنانية، وإدارة الصراع الخفي مع ايران حول برنامجها النووي، وتعزيز فرص تطبيع علاقات جديدة مع دول عربية، في حين تستعيد حركة حماس وفصائل غزة أنفاسها بوقف مسيرات العودة، والتفرغ لملف الانتخابات الفلسطينية، وتحسين ظروف الحياة في القطاع ودعم مشروعات اقتصادية، و فتح باب العمل للمزيد من عمال قطاع غزة للعمل في إسرائيل .

أولاً: التفاهمات: قطعت الفصائل الفلسطينية وحركة حماس شوطاً طويلاً في الحفاظ على جوهر التفاهمات من أجل كسر الحصار عن قطاع غزة، وتوسيع مساحة الصيد، وفتح المعابر والسماح بإدخال معدات الصيد وإعادة مراكب الصيد التي سيطرت عليها القوات البحرية الإسرائيلية لأصحابها في قطاع غزة، رغم التصعيدات العسكرية الأربعة منذ التوصل لتلك التفاهمات، التي مُنح بموجبها أيضا قطاع غزة أموال قطرية تُساهم في تخفيف الأزمة الاقتصادية داخل قطاع غزة، وذلك بصرف مساعدات مالية للأسر الفقيرة ولجرحى مسيرات العودة، ودعم وتمويل مشاريع اغاثية واقتصادية داخل القطاع المحاصر، بتمويل قطري واشراف من الأمم المتحدة، وأمام أنظار الوفد الأمني المصري.

ثانياً: التهدئة: تطورت التفاهمات الغير مكتوبة إلى صيغة مُتفق عليها بين الأطراف للوصول إلى تهدئة من خلال وقف مسيرات العودة وعدم إطلاق البالونات الحارقة، ووقف الارباك الليلي على حدود قطاع غزة، وعدم إطلاق الصواريخ من قطاع غزة على المستوطنات الإسرائيلية، وبذلك تحقق توسيع مساحة الصيد في بحر غزة.

في حين طبقت الأطراف بعض شروط التهدئة، من خلال السماح بإنشاء المستشفى الأمريكي على حدود قطاع غزة الشمالية، وهو ما يُعتبر جزء من مخرجات ورشة البحرين الاقتصادية، التي تسعى الولايات المتحدة لتطبيق الشق الاقتصادي من صفقة القرن بشكل تدريجي.

اعتمدت الأطراف على تطبيق قاعدة "تجزئة التهدئة" من خلال استدراج مُسيري مسيرات العودة على القبول بشروط الوسيط الدولي من خلال منع اقتراب المتظاهرين في مسيرات العودة من السياج الحدودي لمسافة 300 متر، وعدم اطلاق بالونات حارقة، وعدم استخدام الأدوات الخشنة في المسيرات، حيث لعب الوسيط الأممي للشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف دوراً في تثبيت التهدئة أكثر من مرة إلى جانب مصر حيث قال "إن الأمم المتحدة تشارك مصر في جهود غير مسبوقة لتجنب نشوب صراع خطير" وأنه "يجب إفشال الذين يريدون إثارة حرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين"، ويقصد بذلك الصواريخ التي كانت تُطلق على إسرائيل والتي من شأنها احداث تصعيد عسكري بين غزة وإسرائيل في أي وقت.

ثالثاً: الهدنة: بات من الواضح أن حركة حماس تسير نحو هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل بعد تجزئة التهدئة جغرافيًا وزمانيًا، وأنها تقتصر فقط على قطاع غزة، مع استعداها لخوض مفاوضات أكبر لعقد "هدنة" طويلة الأجل مع الاحتلال، ويتضح توجه "حماس" لتجزئة "الهدنة" في المفاوضات الأخيرة للحركة مع الوفد المصري وملادينوف في شباط 2019، التي تمحورت حول فتح مصر معبر رفح ، مقابل ضبط حركة "حماس" للمظاهرات على الحدود. وتعزز هذا التوجه لدى "حماس" بعد فشل الجهود المصرية لإيجاد صيغة لتطبيق اتفاق المصالحة الذي وقعته حركتي فتح وحماس في القاهرة في تشرين الأول 2017، وفي ظل فرض حكومة الضفة الغربية اجراءات عقابية على غزة، وبعد انطلاق مسيرات العودة بزخم في قطاع غزة في نهاية آذار 2018، التي وجدت الحركة فيها وسيلة للضغط من أجل كسر الحصار ومعالجة أزمات قطاع غزة، عبر التوصل إلى هدنة مع الاحتلال الإسرائيلي.

سياسة التدرج في التعامل مع قطاع غزة من التفاهمات إلى التهدئة وصولاً إلى الهدنة فرضتها إسرائيل على حركة حماس، فإسرائيل لا تريد تلبية طموحات حركة حماس بإقامة ميناء ومطار، وفتح المعابر وانهاء الحصار بشكل كامل عن القطاع، حتى لا تتمكن حركة حماس من تقوية حكمها للقطاع، بدون ثمن سياسي أو مقابل انجاز صفقة تبادل للأسرى، وأن تتخلى حركة حماس عن تطوير سلاحها وتسليمة، في ذات الوقت الذي لا توجد فيه حكومة إسرائيلية قوية قادرة على اتخاذ قرارات بإجراء هدنة كاملة ذات رزمة سياسية شاملة، تشمل صفقة لتبادل الاسرى وحلول سياسية واقتصادية لقطاع غزة.

لذا فإن الهدنة هي مخرج من أزمات قطاع غزة بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي وقد عَلت الأصوات داخل إسرائيل التي تنادي بذلك، في ظل غياب خطة إسرائيلية في كيفية التعامل مع قطاع غزة، ويدعم ذلك التوجه في إسرائيل وزير الأمن الداخلي غلعاد أردان، عضو المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية، حيث قال إنه "يجب النظر بإيجابية لإمكانية التوصل لتسوية مع حماس؛ لأن هذه التسوية لن تمس بأمن إسرائيل، ولذلك يجب العمل على إنجازها كلما كان ذلك أسرع، في ظل أن تنفيذ عملية عسكرية واسعة في غزة هو الخيار الأسوأ من جهة إسرائيل"، من جانب آخر، يتبنى وزراء في المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر "كابنيت"، وضباط كبار في الجيش، ومراكز بحثية إسرائيلية، فكرة التوصل إلى صيغة "هدنة" مع "حماس". فقد كتب كوبي ميخائيل، الباحث في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، "هناك كيانان فلسطينيان منفردان، ومعاديان لبعضهما، وبالاستناد إلى الافتراض بأن "حماس" ستبقى العنصر المهيمن في غزة، يجب فحص إمكانية قبول وجود "كيان معادٍ آخر على حدود إسرائيل"، وبلورة إستراتيجية لتسوية العلاقات معها، بوساطة تفاهمات أمنية"، ولكن هذه الأفكار لم تتحول إلى سياسة رسمية للحكومة الإسرائيلية.

أخيراً: ليس من السهل التكهّن إلى أي اتجاه ستسير الأمور بين الجانبين، فالوصول إلى هدنة طويلة بين قطاع غزة وإسرائيل ليس بالأمر البسيط، حتى وإن صدقت النوايا، والطريق إليها طويل ومليء بالعقبات والمفاجآت والتحديات، وذلك يتجلى في عدم قدرة حماس فرض شروطها بالكامل على الاحتلال الإسرائيلي الذي يرى في التهدئة أمراً نسبياً، ومرحلياً هدفة تثبيت الهدوء في غزة، ليس من أجل استقرار حكم حركة حماس في غزة، بل لأهداف عسكرية إسرائيلية، في حين يبقى تحدي عدم موافقة الجهاد الإسلامي وبعض الفصائل الفلسطينية في القطاع على التهدئة عائقاً أخر، خاصة اذا ما أطلق صواريخ من قطاع غزة تجاه المستوطنات الإسرائيلية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد