الصخب الذي يخرج من غزة حول مآسي الحرب والحصار وأهمية الإسراع في الإعمار قبل الإنفجار يكاد يُسمِع الأصم ، والدم والخراب الذي طفح منها وملئ شاشات التلفزة ومواقع التواصل والصحف ومقالات الكتاب يكاد يكفي ليُعكر مزاج العالم ، لكن لا جدوى من كل هذا الحديث الذي يبدو مستهلكاً في عالم فقد إنسانيته وعقله وراح يأكل نفسه ويمزق غيره في حرب بلا قيم وأخلاق سحقت في طريقها دولاً ومجتمعات وشعوب وجرفت مساحات شاسعة من القناعات والأفكار والقيم والثقافات ورسمت خرائط وحدود جديدة في الجغرافيا والسياسة والاقتصاد وسلوك البشر لصالح بقاء أنظمة حكم فاسدة ومستبدة لا تقيم وزناً للإنسان .
المواطن البسيط في غزة يعرف هذه الحقيقة لكن ليس هذا ما يشغل باله ويزيد من مخاوفه لأن حاجته المتنامية إلى الخبز إضافة إلى أشياء كثيرة تتعلق بقيم الحرية والعدالة والمساواة والآمان والاستقرار تصرف اهتمامه عن متابعة ما يجري على الساحة الدولية والإقليمية باستثناء ما يتصل بأخبار قد تحدث إنفراجاً في واقعه المأزوم أو ت فتح له نافذةً جديدة من الأمل .
وهو حينما يعي ذالك ( أي المواطن الغزاوي ) يدرك تماماً بمقتضى المعايشة والتجربة مدى خيبته الكبرى وتشكيكه وعدم ثقته في قيادته السياسية والتنظيمية ونخب المجتمع لأنه أينما شاح بوجه وأذنيه يسمعهم ويراهم يتحدثون عن الفضيلة والإصلاح والتصالح والشراكة "كأنبياء" ، فيما تعزز مخرجات أفعالهم عكس الصورة ويبدو هو كشيطان أو ساذج أو مدسوس إن تساءل عن الأثر الحقيقي والملموس لحديثهم المنتفخ بصفائح من القرارات والوعود والأحلام منتهية التاريخ والصلاحية أو انتقد حالة التشظي والإنقسام في الرؤى والتوجهات والتحالفات أو انتفض لينتزع حقوقه ويطالب بحريته .
وفي ردة فعل عكسية لما يجري بصقت غزة في وجه العالم الذي أدار ظهره عن معاناتها وعن الاحتقان الذي أصاب حلقها وهي تستغيثه منذ سنوات دون جدوى ، وفي جنازة غير مهيبة شيع الناس كل مفاهيم العدالة والإنسانية والحقوق التي تشدق بها العالم إلى المتحف السياسي الدولي ، فيما رفضت غزة على المستوى الفلسطيني أن تفتح لنفسها بيت عزاء لتأبين حقوقها وأحلامها الموءودة التي يتعامى عنها السياسيون في رحى الشوفينية والاحتراب على كرسي السلطة .
غزة اليوم تعيش أسوء حالات الغربة والانفصام والتفسخ على المستوى النفسي والفكري والاجتماعي ولا أحد ينتبه لما يجري من اهتزاز واختلال داخل طبقات المجتمع وأغواره العميقة ، والكل يتجاهل بقصد أو دون قصد أسوء ما يمكن أن ينتجه الجوع والجهل والتهميش داخل المجتمعات التي توصف بالطاردة والمسحوقة مع فارق كبير بين الجاهل والجائع ، فبينما يتواطأ الأخير على قدر حاجته مهللً على قدر جوعه منتبهاً للمسافة التي تفصله عن السقوط في الهاوية يقود الجهل صاحبه إلى حتوف أبشع تصل به إلى حد تسليم رأسه لأي مستثمر يحشوه بما يريد مقابل وعود واهمة أو دراهم معدودة .
وحين يصبح العقل مدحوراً في أقصى المشهد تتحكم فيه يد الشيطان بفعل الحاجة يصبح كأرض خصبه لكل من يقصده ويبذر فيه سمومه تحت مسميات كثيرة تارة باسم الدين وتارة باسم الوطن وتارة باسم الحزب والسلطة ، ودون أي سؤال أخلاقي يمضي الفرد لصبح جزءاً من نظام فوضوي أو تخريبي أو استخباراتي ينخر قواعد المجتمع بصمت .
وهنا تتصادم مدخلات التربية والتنشئة مع مخرجات الواقع لتفضي إلى جيل مرتبك مشوه التوجهات فالهوية الوطنية أو الحزبية أو الفكرية صارت مثاراً للسخرية أو القتل أو القدح أو سببا ً كافية للبحث عن الهجرة واللجوء ، والتدين فقد قدسيته وصار وظيفة أو سلعة أو تهمةً أو ذريعة لالتهام الآخر وسفك دمه ، فيما يتفسخ النسيج الاجتماعي وتتقلص العائلة ليصبح الفرد فيها ينطوي على نفسه ولا يتسع حضنه الصغير لأكثر من هاتف ذكي ، أما الحديث عن القيم وأخلاق المجتمع فصار نوعاً من الهراء والترف الذي لا وقت له أو مكان.
كل ذالك وأكثر من المشكلات الاجتماعية التي تهدد السلم الأهلي والتماسك الوطني والحرية الفكرية تحتاج لمراجعات جذرية بما يؤسس لإمكانية تثوير وتنوير الوعي الإيجابي بالإنسانية كركيزة أساسية في بناء مجتمع سليم ومعافى ومنتج لديه من الخطط الخلاقة ما يكفي للنهوض بالواقع التعليمي والاقتصادي والاجتماعي وتجريف ثقافة الجوع والحرمان والإحباط والحدود الصارمة بين الطبقات ، والأمر متصل حتماً بمراجعة أنماط التربية بدءاً من الأسرة والمدرسة والمجتمع والمسجد وتربية الحكومة لمواطنيها وتحديد صلاحياتهم كل منهم ، فصلاح أخلاق المجتمع لا ينسب لأحد لمجرد أنه يدافع عن فكرة صالحة ، فغالباً حينما يرتفع صراخ الوطن مطالباً العالم باحترام وتطبيق الأخلاق والقوانين تكون الجرائم والانتهاكات تحدث من الداخل .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية