كثيراً ما نفتخر أننا نتمتع بأعلى نسب التعليم في المنطقة، وأننا لا نعاني من الأمية في صفوف أطفالنا، وأننا رغم الاحتلال نولي التعليم والثقافة أهمية كبرى في حياتنا. جميلٌ أن نجمع هذه الإحصائيات ونتباهى بها، لكن الأجمل هو أن تعكس هذه الإحصائيات واقعاً من الثقافة والوعي والمفاهيم السليمة لتكون جزءاً أصيلاً في مناهج أطفالنا.
للأسف الحقيقة مغايرة لهذه التمنيات، حيث إن مناهج تعليمنا ما تزال تعتمد أسلوب التلقين وتحتوي على مفاهيم متخلفة عن العصر والحداثة ثقافياً وحتى علمياً. وفي بعض الأحيان، هناك ما يتعارض مع مبادئ القانون الأساسي وإعلان الاستقلال في مناهجنا التعليمية. وفي هذا السياق، تبرز الصورة النمطية للمرأة والمفاهيم الرجعية عن دور المرأة في المجتمع كمثال صارخ في قتامته حول الانفصام الحاصل ما بين الادعاء حول الحداثة والتطور الاجتماعي والواقع الثقافي المر وغير المبشر.
وبالنظر إلى المنهاج الرسمي، الذي من المفترض أن يبني وعياً وثقافة تتماشى مع العصر والعلم ومفاهيم الدولة المدنية، تبرز عدة أسئلة غير مريحة، منها على سبيل المثال لا الحصر: ما معنى أن تعتبر مناهجنا التعليمية عمل الأم خارج المنزل أحد المشاكل التي تواجه الأسرة الفلسطينية؟ وما معنى أن يُدَّرس أطفالنا "أبي يعمل وأمي تطبخ"؟ وما معنى أن تُدرِس بناتنا أنه وفيما بتعلق بالزواج، الشاب يختار "الفتاة المناسبة" للزواج ولا قول ولا رأي ولا خيار للفتاة؟! وما معنى أن تكون صورة الأم في كتبنا الدراسية محصورةً في صورةٍ نمطية واحدةٍ تُلغي التنوع الثقافي والديني والمدني الموجود (حتى الآن) في مجتمعنا وتحصر مهام الأمومة بتعزيز التعاليم الدينية دون التنويه إلى دور الأم التثقيفي والتربوي في كل المجالات؟!
من ناحية، تعكس مناهجنا التعليمية واقعنا الثقافي المغاير لما ندعيه من حداثة وتطور وشراكة بين الرجل والمرأة. ومن ناحية أخرى، تفسر مناهجنا وأسلوب التلقين المعتمد في التدريس انعدام ثقافة الحوار والنقاش الهادئ في مجتمعنا وقبول الصراخ والتهويل بديلاً لهما وفرض التبعية الفكرية ومحاربة الابداع والاختلاف كجزء من ثقافتنا وممارساتنا اليومية.
وفي ظل انتشار آفة الفكر المتطرف والعمل المتوحش المتمثلين في جماعات عديدة منها - مثالاً لا حصراً -"داعش"، أصبح من الضرورة بمكان أن نواجه واقعنا الثقافي والفكري والتربوي بدون مواربة أو تجميل. وبات من المُلح أيضاً أن نقيم متانة فكرة الدولة في مجتمعنا ومدى قدرتنا على حماية تلك الفكرة مقابل هجوم الفكر المضاد. واقع الحال يؤكد أننا لسنا بمأمن من هذه الآفة وأن "التدعيش" في مجتمعنا قد بدأ فعلاً منذ زمن، وعلينا الآن مواجه آثار التراخي الثقافي والفكري الذي ارتكبناه وما زلنا تجاه المستترين بادعاء احتكار الدين والمروجين لاحتكار الحقيقة والتحريض على الآخر، طالما أن المحرِض أنا والمُحرض عليه غيري، وغيرهم ممن يجزؤون القيم الإنسانية حتى تكون على مقاس أفكارهم ومواقفهم.
علينا الاعتراف بخطورة أن يكون هناك أناس مؤثرون في مجتمعاتنا يرفضون حتى الآن أن تسمى الأمور بمسمياتها وأن يعلنو أن أفكار وتصرفات داعش ومن لف لفيفها مرفوضة لهمجيتها وتوحشها. بل علينا أن نعترف بأن هناك من يعتبر أن هؤلاء مسلمون ويمثلون الإسلام بدل أن يجاهروا بحقيقة أنهم يشكلون أكبر اعتداءٍ على الإسلام ورسالته الانسانية. وعلينا أن نصارح أنفسنا بأن هناك بيننا من اعتبر حرق الطيار الأردني المغدور معاذ كساسبة أمراً يمكن تبريره بل الجدل فيه لأيام!.
مناهجنا التعليمية بحاجة إلى جهد حقيقي ينفض غبار الجهل والرجعية عن كتب أطفالنا ويُمكن مجتمعنا من مواجهة الفكر المريض الذي يعتدي على تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا. الأمية ليست جهل الحروف والكلمات فقط فنحن نعاني أمية ثقافية تفقد الحروف والكلمات معانيها وأهميتها في كثير من الأحيان.
تنهار فكرة الدولة في بلد عربي تلو الآخر أمام أعيننا وتُستبدل بتناحر مجموعات من الغوغاء الجهلة. أمامنا خياران لا ثالث لهما: الأول هو حسم الانحياز لمفهوم المجتمع المدني الحديث والمثقف وهذا يتطلب جهداً حقيقياً ووعياً واصراراً يتخطى الشعارات الرنانة والورشات التي يقتصر تأثيرها على الفقاعة الثقافية التي تعقد فيها. الخيار الثاني هو الاستسلام لواقع داعشي لا يتطلب سيطرة تلك العصابة الإجرامية لأن "التدعيش" حاصلٌ والنفاق بشأن طبيعته واقعٌ وقبول درجات من هذا الفكر أيضاً حاصل... أما النفاق والمواربة والرياء بشأن الواقع فهو الوصفة الأكيدة للانهيار ويجدر بنا أن نتصدى لها باعتبارها حليفاً أصيلاً "للتدعيش".
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية