ان تنام عشرين ساعة وتغرق في النسيان اللذيذ، خير لك من ان تظل صاحياً على آلامك المدببة الموجعة المستوحشة، تفترسك رويداً رويداً، وتجعل من ذاكرتك مطرقة من حديد.
هكذا اعيش ما تبقى لي من حياة، انام ثم انام ما استطعت الى ذلك سبيلا، وفي النوم راحة وهدوء ابيض، لا ارى سجاناً ولا بابا موصداً، ولا صرخات من حولي، وانسى ثم انسى ان بطني مفتوح على كل الجهات، تتدلى منه اسلاك طبية، متكور مثل الطابة، وانسى ثم انسى اني مشلول ولا استطيع الحركة الا على كرسي المقعدين، وانسى ثم انسى ان جسمي محطم اتعثر بحالي.
انام عشرين ساعة بعد ان آخذ الحبوب المسكنة والمنومات المؤثرة، اتخدر من الوريد الى الوريد، يهدا دمي المسمم عن الفوران، تتباطؤ عضلاتي وترتخي في جوف لحمي المشبع بالجروح، تسكت الرصاصات والشظايا المتبقية في عمودي الفقري.
انام عشرين ساعة للنسيان، اخرج من هذا القبر المغلق الذي يسمى مستشفى الرملة الاسرائيلي، اقف على قدمي، امشي ككل الناس المكتملين، اذهب حيثما اشاء، اركب البحر واغني مع النوارس المحتفلة بعودتي، اصلي على التراب الاحمر وابعثر الحصى في الرمل والماء، لا اخشى طبيباً يبلغني باني ساموت بعد قليل، وانه يمارس دور السجان معي وليس الطبيب، وان بقائي هنا مؤقت لحين اعداد اسباب الموت لي جيداً.
عشرون ساعة للنسيان، ابتعد عن الهواء المخنوق المشبع بالصرخات والآلام ورائحة الادوية، وكاني لا ارى خالد الشاويش وهو يرتعش على مدار الساعة، جسده المرتجف المشلول المخدر بالمسكنات، وكاني لا اراه متكوماً في جسده المحفور بالرصاص، لا يصل اليه صوته ولا يداه ولا قدماه.
عشرون ساعة للنسيان، وكاني لا ارى ناهض الاقرع المقطوعة قدماه، تشران دماً، يضع صور اولاده المحروم من زيارتهم امام عينيه ويبكي، يحالو ان يعلم جسده المشي في الخيال صامتاً، مقتنعاً انه كلما ابتعدت عنه اعضاؤه ازداد قرباً اليها...
عشرون ساعة للنسيان، اركب جسوراً ممدودة بين جهاز تنظيم دقات القلب في صدر رياض العمور، ودقات الابواب المتكررة، كلما تجول الجلاد ليلاً لاحصاء نسبة الصمت في الاوردة، وفراغ الاجساد من الاصوات.
عشرون ساعة للنسيان، بعيداً عن الموت الذي يجيء متقطعاً نحو الاسير محمد براش، الاعمى والاطرش والمقعد، الحياة في جسمه ناشفة، سلاسل في عنقه، الايام لا اجنحة لها ليطير في السماء.
عشرون ساعة للنسيان، ترافقني الشمس الى الاسير يسري المصري، احاول ان لا اصدق انه مريض بالسرطان، واحاول ان لا اصدق ان هذه الشمس لم تنجح في رسم بسمته على نوافذ غرفتي.
عشرون ساعة للنسيان، اروى حلمي على الاسير معتصم رداد، اقول له: ان سرطان الامعاء ونزيفك الدائم قد انقذه ذلك الموج، وان جروحك قد غطتها غيمة تجلس على عرش الوقت تتعكز على سلم البقاء.
عشرون ساعة للنسيان، جسدي ما أراه وما لا ارى، وانا الآن طافح بالامراض نائماً، ارى وادياً، وارى برزخاً، اخلع قميصي عني، جسدي خرقة مبلولة مني، اصغي اليه وهو يشكو ويطلب ان لا اتركه ناقصاً في رحيلي وعجزي.
عشرون ساعة للنسيان، حتى كاني اسجن روحي، اختنقت معها امام المدافن الضيقة، الناس تدفعني الى القبر، صورة الارض نعش والسماوات جوفاء، اسمع آيات الوداع كان ايدي العالم من خشب، تنزع جلدي عني وتدثرني.
الى كل هؤلاء المرضى الغائبين الاموات الاحياء، ارفع هذا النصب، محفوفاً بقطع اجسادهم وسعالهم واصواتهم المتباعدة، يجيء من حناجر غامضة في تاريخ يكتبه صدأ المعاني، وموت احكام ومباديء حقوق الانسان في زنازين نصوصها الجميلة.
ارفع هذا النصب، للاسرى المرضى الملفوفين في نعوشهم البيضاء، القادمين الينا للموت قريباً او للموت بعيداً: علاء الهمص، مراد ابو معليق، ناهض الاقرع، معتصم رداد، ربيع صبيح، محمد براش، يسري المصري، شادي دراغمة، امل طقاطقة، خالد الشاويش، منصور موقدة، فواز بعارة، سعيد البنا، معتز عبيدو، صلاح الطيطي، اياد نصار، عثمان يونس، رياض العمور، خضر ضبايا، شادي ابو حلاوة ، محمد غوادرة، نزار زيدان، وسيم مسودة، جهاد ابو هنية، عثمان ابو خرج، رشدي ابو مخ ، موسى صوفان، يوسف نواجعة ، اشرف ابو الهدى، عدنان محسن ،... عاليا ومزدحما بهم وبغيرهم، يطل على العالمين بكل اسباب الموت والحياة وشهوة الاسئلة.
ارفع هذا النصب، للذين ذهبوا ولم يعودوا، المنتظرين على بوابة الابدية، المحشورين في مؤبداتهم واوجاعهم، يحشون دمهم وارادتهم بزهور الحرية، وبطلقات ارواحهم منذ بداية الاحتلال حتى جنازة ميسرة ابو حمدية...
عشرون ساعة للنسيان، لا تبلغوني ايها الناس ان ماساةً او كارثةً حدثت للاسرى جعفر عوض ومحمد التاج ونعيم شوامرة، لا ترسلوا الي اصواتهم الاولى والاخيرة، المسافة من النسيان الى الذاكرة مبقعة بالدم وطويلة...
عشرون ساعة للنسيان، وعندما عثر علي الشاعر المرحوم سميح القاسم في غرفة العناية المركزة، محاطاً باشباح المقابر والاسلاك الشائكة، لطم على خديه وبكى قائلاً:
انذا اخاطب قلبك المشطور
ما بين الحقيقة والحقيقة
فا سمع
ولا تسمع
كفانا في دهور الموت
ما تلد الدقيقة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية