في احتفالية بدت متواضعة بعيدا عن الطقوس المصاحبة أعادت غزة إعلان افتتاح ميناءها مرة ثانية بعد أن كان قد تم افتتاحه سابقا بحضور الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك كاحتفال حقيقي لولا العقد ونصف الماضيين من الصدام ربما لكان الأمر مختلفا ويمكن كان لغزة أن تسجل رقم الرحلة وكان يمكن أن نرى مسافرين حقيقة لا لافتة رمزية أخطأ واضعوها حتى في الترجمة .
من حق غزة أن تن فتح على العالم فقد آن الأوان لأن تنفتح بوابات هذا السجن الكبير نحو العالم... نحو الحرية.. ومن حق سكان غزة أن يعيشوا كما البشر بعد أن بدا كأن التاريخ نسيهم على أحد أرصفتهم الرطبة قائلا موتوا هنا ويكفي هذه السنوات من العذاب التي أنهكتهم حد الإعياء بلا رحمة وكأن القدر يعاند هذه المنطقة ويحكم عليها بالموت حبسا أو جوعا أو ألما أو كلها مجموعة .
ولكن الحديث عن افتتاح الميناء في ظروف الانقسام والتباعد الفلسطيني وفي ظل غياب الحكم الفلسطيني الموحد وهنا لا تكفي مجموعة صغيرة من الوزراء منفصلة عن الواقع حتى نتحدث عن الحكم الموحد ، ففي أي خطوة في ظل الانقسام ما يجعل الأمر ملتبسا بين الفلسطينيين حتى وإن كانت رمزية وخصوصا أن هاجس الفعل الإسرائيلي والتفكير الإسرائيلي يظل حاضرا دوما وليس من المبالغة بالقول أنه عنصر فاعل يعمل على توجيه الفلسطينيين إلى الوجهة التي يريدها .
فأية خطوة منفصلة في غزة تبدو كأنها استدراج نحو المشروع الإسرائيلي والذي كانت غزة خلال العقود الثلاثة الماضية كعب أخيله التي يريد أن يتعافى منها منذ وضع الأمن القومي الإسرائيلي مشروع دولة غزة نظريا ثم حين لم يتحقق ذلك كانت إسرائيل تبحث عن كيفية التخلص من غزة وفصلها في ظل استكمال السيطرة على الضفة .
فكان في اتفاق أوسلو أولى نذر التخلص من كابوس غزة لكن الرئيس عرفات مد سلطته نحو الضفة وأصر أن يبقى في المقاطعة ، ذات مرة كانت إسرائيل قد بدأت في نهاية تسعينات القرن الماضي ببناء جامعة في غزة ، طلب الرئيس عرفات منع ذلك فقررت بعض الفصائل والشباب بأن تمدد أجسادها في الشارع لتمنع السيارات المحملة بخليط الاسمنت وقد نجحوا فطلبت إسرائيل التفاهم على ذلك وكان حينها ممثل الارتباط الفلسطيني العميد سالم دردونة الذي أبلغني أن ضابط الارتباط الإسرائيلي قال له نصا " قل لياسر عرفات أن يكسب بناء الجامعة فنحن سنخرج من غزة وستكون الجامعة لكم أما الضفة الغربية فسنقاتلكم فيها على كل حجر " .
الجامعة أصبحت لنا وهي فرع لجامعة الأقصى في الجنوب وإسرائيل تقاتلنا في الضفة على كل حجر وكل شبر أرض وكل شجرة زيتون وكل بيت ويخشى أنها تستدرجنا نحو ما قاله ذلك الضابط وما أرادته كل مؤسسات التفكير ومؤتمراتها وقادة أمنها القومي وخبراء الديمغرافيا تلتهم الضفة وتحاصر غزة حتى تبحث هذه عن طرق الخروج بعد أن تكون قد أحدثت كيا لوعيها بالحصار والحروب والدمار والانقسام . وهنا أيضا أزمة معبر رفح الذي ندرك أهمية فتحه عاجلا ولكن حالة الحصار تخيف من هجرة جماعية فيما لو فتح على مصراعيه فبقينا ننتظر المصالحة حتى نطمئن لفتح المعبر والميناء لأن فتحهما دون مصالحة يعني فصل غزة وهنا الخوف فإسرائيل لا تعبث ونحن لا نفكر بشكل جماعي ولا نفكر بشكل استراتيجي لأننا أمام دولة ماكرة ونحن في أتون صراع داخلي وخلاف واضح أنه لن ينتهي ، وهنا الميناء يشبه معبر رفح وكل شيء متشابه ومتشابك ومتناقض ، ما هو مطلوب إنسانيا خيار وطنيا وما هو مطلوب وطنيا صعب إنسانيا هذه هي المعادلة ليصبح كل شيء معقد حد الجنون .
فما العمل إذن هل تبقى غزة تموت ببطء حتى نبقى على المشروع الوطني ؟ يخشى حينها ألا نجد سكان غزة سوى بقايا بشر ، ولكن هل نأخذ غزة ونفصلها حتى يعيش وينتعش أهلها يخشى حينها أننا ذهبنا نحو ما تريد إسرائيل أرأيتم حجم المأساة ؟ الحل فقط أن تكون غزة جزء من المشروع الوطني وجزء من النظام الفلسطيني بكل مكوناته أن تدرك السلطة مسئوليتها عن المشروع ككل وأن تعي حجم المخطط الإسرائيلي وخطورته وأن تدرك حماس مسئوليتها عن الوطن والمشروع ككل لا عن غزة وحدها أن تسعى لاعادة دمج غزة بما يتطلبه ذلك من تنازلات لا أن تبعدها كما فعلت لسنوات وتخرجها عن سياق الصراع والاشتباك فالأمر معقد ولكن بالحوار يمكن حل كل شيء فحذار من استمرار الانقسام فإنه تجاوز الصراع على السلطة إلى الحد الذي بدأ ينخز في جسد المشروع الفلسطيني نحو الحلم الإسرائيلي ..!
خلال لقاء الشهر الماضي جمع الكتاب بالدكتور موسى أبو مرزوق قال الرجل أن إسرائيل أرسلت عدة رسائل لحماس مضمونها "انسوا الضفة و القدس ونساعدكم ونرفع الحصار عن غزة بل ونساهم في ازدهارها "وقال أن حركة حماس رفضت ذلك ، الحقيقة أن هذا موقف مسئول ولكن المسئولية تتطلب إدراك حجم النوايا الإسرائيلية والتقدم أكثر نحو المصالحة لا الإصرار على هذا التمسك حتى بمعبر رفح وكل شيء بغزة لتبقى الأمور عالقة ولا نجد مخرجا سوى المخرج الإسرائيلي ..!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية