ماشدني إليه كان خبراً قصيراً في إحدى الصحف المحلية، قبر السفر إلى لندن وضعته على سلم أولويات الأماكن التي يُفترض أن أزورها في رحلتي المفاجئة، سيما بعد أن صادفت اسمه في رائعة تشارلز ديكينز "قصة مدينتين". إنه "Fleet Street"(شارع فليت) المعروف باسم "شارع الصحافة" بسبب تمركز عمالقة الصحافة العالمية والبريطانية فيه منذ ثلاثة قرون.
وفي انجترا يشار إلى "Fleet Street" كشارع الصحافة وللعاملين في الصحافة الوطنية. بيد أنه لم يعد كذلك بعد اليوم. فقد هجرت المكاتب الاعلامية الشارع وكان آخرها وكالة الأنباء الفرنسية عام 2009.
له لون خاص، وطعم خاص أيضاً، فالمباني العتيقة التي تعكس الفخامة والبذخ أضفت عليها الأعمدة الرخامية المرتفعة على مداخلها مزيدا من الأُبّهة. أما الشبابيك البيضاء وسط الجدران قرميدية اللون فحافظت على الطابع الانجليزي الملتزم.
لم يكن الباب الحديدي لمكتب البريد مغلقاً لانتهاء وقت الدوام، فقد أغلقته الحكومة إلى الأبد، ولم تعد هناك حاجة إليه بعد أن فقد الشارع حيويته. وكراسي المطاعم على جانبي الطريق تفتقد المرتادين وبعضها أغلق أبوابه بعد إشتياق طويل للزبائن.
إمرأة في العقد الخامس من عمرها تقود كلبها الصغير بسلسلة فضية بانتظار أن تقطع الطريق. "إليزابيث، لكنني لست الملكة، ربما أنا ملكة في مكان آخر،" هكذا عرفت عن نفسها بابتسامة سريعةـ قالت إنها تذكر قبل حوالي عشرين عاما كان الشارع أكثر حيوية من اليوم لكنه بدأ يهدأ تدريجياً، "وذلك بسبب انتقال مؤسسات اعلامية كثيرة منه وأعتقد أن بعضها انتهت".
إمبراطور الصحافة مردوخ كان المبادر الأول للرحيل من الشارع سنة 1986، حيث نقل أربع صحف كبرى على رأسها التايمز ونيوز أوف ذ وورلد، تزامن ذلك مع تسلل التكنولوجيا إلى العمل الصحفي الأمر الذي دفع مؤسسات إعلامية أخرى للانتقال إلى أماكن أكثر إنسجاما مع هذا التطور.
على جانبي الشارع ترامت مبانٍ لعدد من المؤسسات الإعلامية العريقة، بعضها اندثر، أو انتقل. ساعة ضخمة تطل من مبنى صحيفة "التيليغراف" جاورها مبنى الـ"ديلي اكسبرس" الذي اُعتبر تحفة هندسية في الثلاثينيات من القرن الماضي، في الجهة المقابلة خيم السكون على أروقة مبنى "85" الذي احتضن وكالة الأنباء العالمية "رويترز" لمدة 66 عاماً قبل رحيلها.
سيارات الأجرة السوداء، إحدى "لزوميات" لندن، والحافلات الحمراء ذات الطابقين تجوب الشارع، البريطانيون يمشون بصمت وانضباط إلا بعض الغانيات كن يتطوّحن في مشيتهن وقد غادرن إحدى الحانات على الرغم من أن الليل لم يرخِ سدوله بعد.
بعكس الكثير من المباني التي خيم عليها السكون، بقيت الحانات المخضرمة، التي تميز بها الشارع، حية بطابعها الإنجليزي الملتزم، فلم تتخلّ بعد عن الكتابة بالطباشير البيضاء على لوحات خشبية سوداء، تسندها على الرصيف، عما تقدمه اليوم لزبائنها.
أحد الأزقة ينتهي بساحة مبلطة، على جوانبها كراسي وطاولات خاصة بحانات متلاصقة. كهل انجليزي يقرأ كتاباً تآكلت أطراف صفحاته المصفرّة، بنبرة لم تخلُ من حنين قال إن الشارع كان شريان لندن الإعلامي والتجاري، "كل من أراد أن ي فتح مشروع تجاري ناجح يحاول أن يجد متسعاً في فليت ستريت، لقد كان الشارع يعاني من ساعة الذروة (rush hour) أربع وعشرين ساعة."
في زاوية الساحة، تعالت ضحكات اختلف ملمسها من وراء باب ضيق، قادني أنفي الصحفي إلى هناك، لم أكن أعلم أنها إحدى أشهر حانات لندن، (EL-Vino) تأسست سنة 1879. عشرات القنينات سربلها الغبار وُضعت في سراديب صغيرة على الأرفف الملاصقة لجدران الحانة التي تزينت بصور بالأبيض والأسود.
وسط الحانة، ضوء أصفر تسلل من السقف الخشبي أضفى مزيدا من الدفء والإغواء على شقراوات ارتدين الأسود... "لقد أتينا هنا للتمتع بوقتنا، والحديث للصحافيين يحتاج تركيزاً ودقة، وليس هذا الوقت المناسب،" اعتذرت إحداهن بلباقة قبل أن ترفع كأس النبيذ الأحمر إلى شفتيها المكتنزتين.
ربطات العنق لم تفارق أي من كبار السن الذين التفوا وقوفا حول منضدة خشبية تزاحمت عليها القنينات والكؤوس الفارغة والممتلئة. يقرعون الكؤوس وسط ضحكات عالية واللكْنة الانجليزية الكلاسيكية "Queen language" تنقلك إلى إحدى مسرحيات العصور الوسطى.
أحدهم "ريتشارد دي-لاس"، رجل أعمال في العقد السادس من العمر، ثري الوجنتين والكرش، أنيق الملبس ودقيق في انتقاء كلماته. كان واضحاً أن له باع طويل في EL-Vino، حمل كأساً في اليد اليمنى وفي الأخرى سيجار يبدو أنه كوبي. قال إن الصحافيين والمحامين اعتادوا ارتياد EL-Vino.
"المجرمون أيضاً كانوا يترددون هنا لأنهم كانوا يحاولون التقاط ما استطاعوا من معلومات تزل من أفواه الصحافيين الذين عادة ما يتتبعون تحقيقات الشرطة وينتزعون المعلومات من أقسام التحقيق وغيرها،" قال وقد انحنى قليلا نحوي وأخفض صوته وكأنه يخشى أن يسمعه أحدهم.
أخذني ديلاس إلى إحدى زوايا الحانة وأشار بيده إلى ركن منزوٍ، لوحة نحاسية نُقش عليها اسم "فيليب هوب والاس"، أحد أشهر كتاب صحيفة "الغارديان"، توفي عام 1971، أشار إلى كرسي خاوٍ أسفلها وقال: كان والاس يجلس يومياً على هذا الكرسي، ثم أشار بيده إلى كرسي آخر في الزاوية المقابلة وقال إن المحامي المشهور جيمس كرسبي، أحد أشهر المحامين الانجليز، شخصية تناولها أحد المسلسلات التلفزيونية الأمريكية، كان مواظباً على الجلوس هنا.
اشتعلت ذاكرة ديلاس، وازداد وجهه الأبيض احمرارا، وضع كأسه على "البار"، أخذني من يدي إلى خارج الحانة وبسط ذراعيه خارجاً وقال إن الشارع كان يزدحم بالشاحنات العملاقة التي تأتي لنقل الصحف كل يوم، وأطلق رواد EL-Vino على الشارع اسم "شارع الحِـبر" لكثرة ما يستخدم فيه من حبر في طباعة الصحف والمجلات. ثم أشار بيده مباشرة أمام الباب إلى كنيسة "سانت برايد" وقال إنها باتت تُعرف بكنيسة الصحافيين، الذين كانوا يترددون عليها أيام الآحاد.
ولفت ديلاس أن صحيفة الديلي إكسبرس صاحبة "المبنى الجميل هناك" كانت ناطقة بلسان المحافظين، إبان الحرب العالمية الثانية، استخدمها مالكها اللورد بيفر بوك لدعم ونستون تشرشل ضد سياسة تشمبرلين. تلك الصحيفة التي اعتاد أن يقضي تشرشل فيها ساعات طوال يكتب المقالات السياسية للمجلة. وقبل أن يعود إلى الحانة، ثم أشار إلى علامة القهوة الأمريكية Starbucks على أحد المقاهي وقال باشمئزاز: "إن أشياءً مثل هذه لم تكن موجودة."
لم يفارق ذاك الكهل (باريت ثوماس) كرسيه بجانب الباب الخلفي. تارة يسقط نظره من خلف نظارته السميكة يتفحص أحرف صحيفة الغاريدان ، وتارة أخرى يلقى بنظره على ساعة يده الضخمة. لم يود الحديث كثيراً سوى الإشارة إلى أن هذه الحانة كانت ترفض استقبال الفتيات اللوات لا يرتدين التنانير. وأضاف أن الصحفيين الذين عرفهم منذ عقود كانوا يهمزون لزملائهم أو لمسؤوليهم باسم El Vino في إشارة إلى انهم في استراحة قصيرة لاحتساء مشروب أو لتناول شطيرة.
أمام "البار" جلس رجل بشاربه الكستنائي الغليظ يرقب تحركاتي وما أدونه من ملاحظات، استفزني لفتح باب الحديث معه. بدا وكأنه كان في انتظاري. لم يتردد في الانطلاق بالحديث بعد ترحيب حار بـ"زميل المهنة"، "مستر آلكس" (54 عاما) أوكراييني الجنسية قال إنه يعمل مسؤول التحرير التنفيذي في مؤسسة نيوز أوف ذ وورلد، منذ ربع قرن وهو مواظب على زيارة EL-Vino يوميا حتى بات جزءاً من حياته.
يعتقد آلكس أن أكثر ما ميز شارع الصحافة هو "العلاقات الإنسانية والحميمة بين شرائح المجتمع آنذاك"، فكان الصحفي أو غير الصحفي يأتي حاملاً على كاهله عبئاً ثقيلاً نتيجة مشكلة في العمل أو البيت. "كان يناقش الأمر مع رفاق الكأس من محامين وصحافيين وشرطة، ولا بد إلا ويكون قد وصل إلى حل."
لم يفارق الكأس يد آليكس وهو يتحدث بتثاقل عن أهمية التواصل الإنساني، بادياً أسفاً على ما انتاب هذه الفضيلة من اهتراء. وبلكنة لم تخلُ من ألم قال: "أحلاماً كثيرة تكسرت بعد التغيرات التي طرأت على الشارع، من الصعب أن تجد أحداً يتحدث معك مثل ذي قبل، لقد فقدت شيئاً هاماً في حياتي..." واختتم حديثه بنصيحة " حافظ على التواصل الإنساني مع الناس بغض النظر عن المؤثرات السياسية أو غيرها."
انعدام التواصل الإنساني امتد خارج الحانة، الحركة نشطة قرب محطة Russle Square، التي يمر عبرها آلاف المواطنين مختلفي الألسن والألوان، وقف شاب يبول على حائط ليتسلل بوله إلى طرف قطعة من الكرتون افترشها رجل "متشرد" يغفو وكلبه باسط ذراعيه بجانبه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية