العملية الإرهابية التي قامت بها مجموعة تابعة لتنظيم إسلامي متطرف ضد صحيفة «شارلي ايبدو» الساخرة في العاصمة الفرنسية باريس يوم 7 كانون الثاني والتي أدت إلى مقتل 12 شخصاً معظمهم من الصحافيين العاملين في الصحيفة، أثارت مرة جديدة موضوع الإرهاب على نطاق واسع دولياً. فعدا عن الإجماع الفرنسي والدولي الذي مثلته تظاهرة باريس الكبرى على رفض الإرهاب والتضامن مع ضحاياه، هناك أسئلة كثيرة أثيرت فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب، وحتى برزت أسئلة أُخرى بالنسبة لحرية الصحافة وإلى أي مدى يجب أن تكون محمية.
ربما يكون هذا الفعل الإرهابي الذي حظي بإدانات واسعة مناسبة لبحث معمق في مسألة الإرهاب الدولي وهل هو مجرد فعل مجموعات متطرفة هنا أو هناك أم أن المسألة أكبر وأعمق وتحتاج لمعالجة متعددة الجوانب. وفي كل الأحوال لا ينبغي التعامل مع العملية باعتبارها جريمة تستوجب معاقبة مرتكبيها ومن يقف خلفهم فقط، بل هناك حاجة للبحث في جذور الظاهرة وأسباب نشوئها وعوامل استمرارها وأخذها أشكالاً أكثر تطوراً وخطورة وانعكاساتها التي لا تقتصر على مكان بعينه أو مجتمع أو دولة بعينها.
الإرهاب كظاهرة موجود طوال الوقت بأشكال وعناوين مختلفة، ولكنه لا يعبر دائماً عن مطالب محقة لأصحابه أو يعبر عن نوع من الاضطهاد والقمع لأسباب مختلفة، فهناك أشكال من الإرهاب نتجت عن تطور أفكار عنصرية تنم عن كراهية الآخر المتخلف عرقياً أو مذهبياً أو قومياً. وفي الشرق الأوسط والعالم الثالث عموماً ظهرت بعض حركات الإرهاب نتيجة لحاجة دول استعمارية للبقاء في المنطقة ولاستثمار مقدرات شعوبها، وهذا تطور لشكل الاستعمار الذي لم يعد بحاجة للشكل القديم الاجتياح والاحتلال المباشر، وإسرائيل هي الاستثناء الوحيد من بين كل الدول الاستعمارية التي لا تزال تحتل شعباً آخر بالقوة. والدول الاستعمارية الأكثر ذكاءً تريد احتلال البلدان التي ترغب بها من خلال دعوة لحماية النظام أو حتى لمكافحة الإرهاب الذي تصنعه لهذا السبب، ليشكل ذريعة للبقاء وللاستيلاء على ثروات الشعوب.
وإذا عدنا للوراء لأواخر القرن الماضي لنشوء تنظيم «القاعدة» وما ارتبط به، سنجد أنه جاء نتيجة للحرب التي شنتها الولايات المتحدة والتحالف الغربي ضد القوات السوفييتية في أفغانستان، حينها كانت «القاعدة» و «طالبان» وغيرهما حاجة للقوى العظمى، استخدمت لتحقيق غاياتها ودعمت بشتى أشكال الدعم المادي والعسكري، إلى أن تحولت عبئاً على بعض هذه الدول فجرى استبدالها بأخرى، وهكذا نشأ تنظيم «داعش» من رحم «القاعدة» وهو لا يزال يحظى بدعم قوى عظمى، فمصادر تمويله الرئيسية هي بيع النفط، وآبار البترول المسيطر عليها معروفة وطرق التصدير معروفه وطرق حصوله على المال والرجال معروفة، ومحاربته كذبة كبيرة معروفة يراد منها إعادة احتلال وتقسيم المنطقة. لو كانت هناك جدية في محاربة «داعش» لكانت الأمور تسير بطريقة مختلفة بدلاً من إلقاء السلاح له والحفاظ على مصادر التمويل والتزود بالمقاتلين الذين يأتون بالطائرات من كل مكان إلى تركيا ويعبرونها بسلام إلى العراق وسورية.
المشكلة في رعاية الإرهاب دولياً لتحقيق مصالح بعض الدول المستفيدة منه هي أنه لا يعرف الحدود ولا يقتصر على منطقة، ومن يعتقد أنه سيبقى بعيداً أو بمنأى عنه مخطئ تماماً، ولكن هناك قوى لا يهمها ماذا يحدث إذ تستفيد من الفوضى والإرهاب في كل مكان حتى لو طال مواطنيها أنفسهم. وبالتالي لن تكون هناك جدية في محاربة ومعالجة ظاهرة الإرهاب، وسيبقى الحال على ما هو عليه مع تبدل وتغير في الشكل والطريقة، وستستمر اللعبة كما كانت مع تجديد في الأدوار والإنتاج والإخراج.
أي تناول جدي لظاهرة الإرهاب لابد أن ينطلق من دراسة وبحث جدي لأسبابها ومبررات وجودها، والبدء في معالجة الجذور والمسببات للقضاء على الظاهرة تماماً، وهذا للأسف غير موجود لارتباط العملية بمصالح كبرى تريد الإبقاء على الظاهرة واستغلالها إلى أبعد مدى. فوجود الاحتلال الإسرائيلي الظالم هو مبرر ليس فقط لمقاومة هذا الاحتلال، بل كذلك لبروز إرهاب من نوع ما يستخدم الاحتلال ذريعة لممارسته. فالذي يريد فعلاً نزع الذراع والقضاء على إرهاب له علاقة بالاحتلال لابد أن ينهي هذا الاحتلال الذي يمثل بحد ذاته عملاً إرهابياً منظماً ضد الشعب الفلسطيني. والإرهاب الموجود في سورية هو نتيجة لدعم دول إقليمية ودولية لحركات إرهابية بهدف اسقاط نظام بشار الأسد، وقد كبرت هذه التنظيمات وسيطرت على قسم من البلاد ولا تزال تحظى بالدعم، وللقضاء عليها أولاً ينبغي أن تكون إرادة دولية بذلك تبدأ بوقف الدعم لها، وثانياً البحث عن حل سياسي للأزمة السورية تنهي حالة الاقتتال والحرب الدائرة هناك. والإرهاب المرتبط بصراعات طائفية ومذهبية يتوجب ايجاد حل لهذه الصراعات وبالتالي يمكن القضاء عليها، وهكذا بالنسبة للإرهاب المتعلق بظواهر الفقر والجوع وتسلط الأنظمة وفسادها، وكل نوع آخر.
إذن، المسألة بحاجة لخلق عالم جديد متوازن يسوده العدل وينتفي فيه الظلم والاستبداد وتوزع فيه الثروات ويتحقق فيه التعاون والتكامل وتتم فيه مراعاة حقوق الإنسان والمساواة التامة بين البشر، وهذا على ما يبدو حلم بعيد المنال بالنظر لما نراه اليوم، وحتى نصبح في واقع مثالي سيظل الفقراء والمستضعفون والمظلومون يدفعون الثمن ليس فقط ثمن الإرهاب بل ثمن الظلم والاستغلال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية