اذا كان من الجائز التركيز على الشأن الوطني الحاصل في رؤية التطورات على مدار العام الذي يغرق في بحر الزمن وفي استشراف العام الجديد فإن من غير الجائز النظر إلى هذه التطورات بمعزل عن الوضع الإقليمي الملموس وعن الوضع الدولي العام.
التطور الابرز - كما ارى - في الوضع الاقليمي كان ذلك الظهور «المباغت» للداعشية السياسية كمشروع سياسي وفي تحول «داعش» من مجرد تنظيم يزاحم في سورية على السيطرة الميدانية مع «النصرة» واخواتها الى جيش جرار استطاع اجتياح حوالي ٤٠٪ من الارض السورية والعراقية وسيطر على ملايين البشر وعلى موارد ومقدرات اقتصادية وامنية وعسكرية هائلة بالمقارنة مع ما كان عليه في الواقع الميداني المرئي قبل هذه المباغتة.
السّر في هذه المباغتة كان معروفاً للكثيرين من المهتمين والمختصين وذلك في ضوء «الدعم والاسناد» الذي حظي به داعش من الاغلبية الساحقة من اطراف معادلات الصراع في معظم مناطق الاقليم العربي، اضافة - طبعاً - الى الدعم والاسناد غير المباشر واحيانا المباشر من الاطراف الدولية المؤثرة في تطورات هذا الاقليم، الى درجة يصعب معها ايجاد طرف مؤثر لم يدعم ويساند داعش بطريقة او بأخرى وبهذا القدر او ذاك.
تركيا مع داعش والنظام السوري مع داعش، ايران كذلك، قطر، حدث ولا حرج، المالكي على رأس المهتمين وحتى السعودية نفسها كانت ترى في داعش «مصدّاً» ضروريا في مواجهة المد الشيعي.
الولايات المتحدة سكتت وهي ترى وتراقب وحتى الأوروبيون انفسهم لم يكونوا قلقين من تطور الداعشية ميدانياً.
كل من زاويته أراد استخدام داعش فإذا بداعش تستخدمهم كلهم للتحول الى مشروع سياسي ابعد واكبر واخطر من كل زوايا الاستخدام التي تفسر هذه المباغتة، دعوني اسأل هنا: هل تعرفون طرفاً واحداً مؤثراً استطاع أن يقف ضد داعش!!؟
من المؤكد أن هزيمة الداعشية السياسية قادمة والقضاء على الوجود الميداني الفاعل لداعش هو مسألة «وقت» قد لا يطول عن سنة او سنتين قادمتين. لكن المهم هنا هو ان الاقليم العربي سيبقى اسيراً لهذا التطور وسيظل مشلولاً أمام تداعياته وهو لن يقوى على الخروج من تبعاته الداعشية الا بصعوبة كبيرة. الامر الذي سيبقي الوضع الاقليمي بالنسبة لفلسطين هو استمرار الانشغال الذاتي وتواصل الانهاك والتدمير المنظم والتهديد المباشر للدول العربية القطرية في امتدادات جغرافية واسعة.
اما الوضع الدولي المحيط بفلسطين فأقل «قتامة» بما هو عليه الوضع الاقليمي.
الولايات المتحدة لم تظهر عجزاً في تاريخها كله كما يظهر عجزها اليوم، وأوروبا تتلمس ببطء شديد طريق موقفها المستقل ولكن الحذر بالنسبة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني كله.
المراهنة الفلسطينية على الموقف الأوروبي مبررة تماماً ولكن الارتهان الى هذا الموقف مسألة خطيرة في هذه المرحلة بالذات.
كل ما تريده الولايات المتحدة في العام الجديد هو انهاك الاقتصاد الروسي ومن خلفها ايران وفنزويلا وبطريقة غير مباشرة محاصرة القوى الخليجية الطامحة الى اتخاذ سياسات مستقلة نسبيا عن الولايات المتحدة ..
لا تجد الولايات المتحدة من سلاح لتحقيق هذه «الطموحات» غير تخفيض سعر النفط ويبدو ان هذا الاتجاه ستكون له تداعيات خطيرة على مجمل العلاقات الدولية في العام الجديد.
وخلاصة القول هنا، فإن فلسطين تواجه موقفا اميركيا لا يدير بالاً للصراع الاسرائيلي الفلسطيني وانشغالاته الحقيقية خارج نطاق الاهتمامات الفلسطينية والعربية الا من الزاوية السلبية ليس إلا.
اما الوضع الاسرائيلي نفسه، فإن فلسطين تواجه التحولات الاسرائيلية نحو العنصرية السافرة وربما نحو نسخة اسرائيلية خاصة للدولة الفاشية في القرن الواحد والعشرين يخوض فيها اليمين واليمين المتطرف معركة حياة او موت بعد ان اصبح من المستحيل الجمع بين الديمقراطية والعنصرية.
اذن، باستثناء التململ الأوروبي وباستثناء امكانية نجاح التجربة الجديدة في تونس وتعافي الحالة المصرية تدريجيا كان العام الماضي كارثيا، وهو ما زال كذلك في بعديه الإقليمي والدولي، وليس من المرجح على الاطلاق ان تتغير الحال في العام الجديد.
اما فيما يتعلق بالشأن الوطني فقد فشلنا في مشروع المصالحة، واصبحنا عاجزين احياناً حتى على الحفاظ على منطق المراوحة واصبحنا نختلف على اعادة الاعمار، ونحن اليوم أسرى لصراعات الاجنحة في حركة حماس ، ولم ننجح بخطوة واحدة جادة نحو الانتخابات وتجديد شرعية النظام السياسي، ولم نتقدم بخطوة واحدة نحو اعادة الاعتبار للمنظمة، ولم نتمكن من اصلاحها او حتى رفع سوية دورها ومكانتها وآليات عملها، وحكومتنا ضعيفة وبطيئة وعنصر الكفاءة والابداع فيها مشتت ومبعثر واداؤها ليس بمستوى التحديات والمتطلبات.
لكننا مع ذلك كله نجحنا في اعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية واجبرنا المجتمع الدولي على اعادة الاهتمام بها وسحبنا من تحت أرجل اسرائيل بساط تحويل القضية والأهداف الفلسطينية الى «مجرد» احتياجات سكانية وافشلنا كل محاولات نتنياهو على هذا الصعيد، بل ويمكن القول ان اليمين واليمين المتطرف في اسرائيل يخوض «معركته» المصيرية في اسرائيل بسبب نجاحنا هذا او بسبب هزيمة نتنياهو واعوانه وهو الموجه الآخر للنجاح الفلسطيني.
معركة مجلس الأمن مهمة ومهمة للغاية لأنها ستعزز من مكانة القضية وستعزز من قدرتنا على ايصال اسرائيل العنصرية الى مرحلة الاختناق السياسي سواء بالحصول على القرار أم بالتداعيات التي ستترتب على عدم تمكننا من الحصول عليه.
والعام القادم .. الجديد هو عام المواجهة مع الاحتلال وعام الفرز في اسرائيل بين دولة القدس ودولة تل ابيب وهو عام الانتكاسات لسياسة اللامبالاة والانحياز الأميركي وعام الشجاعة الأوروبية والاقدام على اتخاذ المواقف المسؤولة تجاه حقوق شعبنا وأهدافه.
كما ان العام الجديد هو العام الفاصل، فإما ان نتوحد تحت طائلة التهديد الاسرائيلي لكل ما هو فلسطيني، واما ان القطاع سينفجر ويتحول الى دوائر جهنمية من الاحتراب والحروب الدامية.
لا يحتمل الوضع الداخلي سنة أخرى من المراوحة او المراهنة على النوايا والوعود والتعهدات الوهمية.
العام الجديد هو عام مفصلي بكل الأبعاد والمقاييس والمعاني.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية