وكالة سوا الإخبارية

172-TRIAL- مثل كل مرة ستظل القدس هي بؤرة الصراع ومركز القضية وبيضتها الراجحة. كما ستظل السباقة دائماً في توجيه الدفة وإرشاد السفينة. الشرارة التي انطلقت من القدس في الانتفاضة الثانية بعد اقتحام شارون للمسجد الأقصى في ايلول عام 2000 هي ذاتها التي مازلت تشتعل في أزقة وضواحي المدينة المقدسة. وفيما تحاول إسرائيل نزع كل ما هو عربي عن مدينة العرب الأولى، فإن المدينة تواصل تأكيد عروبتها والتمسك بكل معالم هويتها الأصلية التي توشحت بها قبل الديانات السماوية، وازدادت بهاءً بها. القدس التي تقف على ساقيها الداميتين تأبى أن تتحول إلى مجرد مسرح صامت للجرائم الإسرائيلية اليومية، تقدم لنا يوماً بعد آخر الدرس تلو الدرس في الرجولة والبطولة. إنها الدروس التي لا يجب أن نمل ونحن نتعلمها. 
إن من يزور المدينة المقدسة ويحظي بالقليل من الوقت للسير في طرقاتها العتيقة سيدرك بسهولة أن الإنفجار قادم قادم لا محالة. فالاحتقان والتوتر يبدوان في كل تفاصيل المدينة: في حركة الناس، في المماحكات التي يقوم بها رجال الشرطة والأمن الإسرائيليين، في الضرائب الباهضة التي يدفعها السكان والتي تهدف فقط إلى تعجيزهم وبالتالي رحيلهم عن المدينة، كما في السياسات وتضيق الخناق التي يتم ضد المواطنين المقدسيين، وفي الاعتقال والمصادرة ومداهمات المستوطنين ورجال الأمن، وفي الخدمات المتدنية التي تقدمها بلدية الاحتلال، كما في محاربة الهوية العربية بكل تفاصيلها من المدرسة إلى الشارع والاعتداءات بحق المقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية.
التوتر يرسم نفسه في معالم المدينة وفي حركتها ونبضها. توتر يقول إن الإنفجار سيكون شديداً، وإن حالة الاحتقان والضغط سيكون لها تبعات حادة على الأرض، وستكون مثل كرة الثلج لن تتوقف بل ستزداد مع الوقت. بهذا فإن الوضع في القدس الذي لا يمكن وصفه بالجديد بل هو تراكم سنوات من سياسات العزل والاقصاء والتهويد والمصادرة والملاحقة والتضييق سيقود إلى نتيجة حتمية واحدة لا ثاني لها، نتيجة تقول بان القدس التي قادت الانتفاضات الفلسطينية منذ ثورة البراق حتى الانتفاضة الثانية، أيضاً ستحمل لواء انتفاضتها الخاصة هذه المرة لتدافع عن هويتها وعن عروبتها وعن فلسطينيتها. هكذا يمكن للعاصمة التي وطأها الكنعاني الأول أن تكون وتظل قلب الوطنية الفلسطينية والمعبر عنها.
أمام كل هذا تبدو الحالة الفلسطينية كئيبة ومحبطة. فمن جهة فالإنقسام الفلسطيني يأكل ما تبقي من كرامة هذا الشعب ومن مقومات وحدته، وكأنه يصر على أنه قدر الفلسطينيين ومصيرهم الحتمي، لا العودة والاستقلال والوحدة هي مصيرهم. ومن جهة أخرى فإن الإنقسام يقود إلى حالة إنقسام في النضال التحرري الوطني، حيث تبدو كل منطقة جغرافية في فلسطين أو ما تبقى منها منشغل بنفسها وبتفاصليها، ولا يلتفت أحد خارج نطاق الجغرافيا. إنه الإنقسام الضيق الأفق الذي يحد من آفاق المنجز الوطني ويقتله. فهو لا يلهي الفلسطينيين عن مشروعهم الوطني وبالتالي يعيقه، بل إنه وإلى جانب ذلك يعيق وربما يحارب بمعاول خفيه أي عملية بناء وتقدم.
ويكون من السهل أن يتم تقديم الانقسام بوصفه الشماعة التي يتم تعليق كل أشكال الفشل عليها، بل يمكن تقديم العمل ضد المصلحة الوطنية بوصفه عذر له ما يشفع له. والكثيرون يجدون في الإنقسام لعبة أثيرة يعزفون عليها اغنيتهم المفضلة حول الفضيلة والخير العام وهم يسبحون في بحر من دماء المصلحة الوطنية والمصالح العليا للشعب المشرد في بقاع الأرض. ولا يجد هؤلاء ما يخز ضميرهم للبحث عن المشترك العام امام تضائل فرص تحقيق المصالحة التي تقبر فور وقوفها على قدميها.
بهذا المعني لا تكون القدس وحدها في خطر بل إن مجمل المشروع الوطني في خطر وخطر حقيقي. فالعدوان على غزة هو حرب غزة وليست حرب إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، هكذا على الأقل تحترف بعض وسائل الإعلام تقديم الأمر، ربما بنية طيبة تقصد إلى تقديم بطولة غزة. لكن في محصلة الأمر فإن ما يتم ليس تقديمه ليس بطولة غزة بل تاكيد فصل النضال في غزة عن مجمل النضال الفلسطيني. والأمر ذاته ينسحب على ما يجري في الضفة الغربية من مصادرة ومداهمات واعتقالات ومواجهات على الحواجز فهي أحداث في الضفة الغربية وحدها وهي نضال الشعب في الضفة الغربية وليست جزءاً من دفاع الشعب الفلسطيني وهبته ذوداً عن أرضه سواء كانت في الضفة أو في غزة أو في الداخل. كما أن نفس المنطق ينسحب على القدس المحتلة التي تواجه وحدها بطش غلاة المستوطنين وزمر المستعربين. إنها انتفاضة القدس وحدها بهذا المعني.
فالقدس التي حملت لواء الذود عن عروبة فلسطين وحيدة تواجه مصيرها، والقدس التي وقفت كالطود تحمل الراية تقف وحدها في مواجهة الرياح العاتية للتهويد والأسرلة. فالصمت العربي الغافل والغافي وراء تفاصيل الحالة العربية الصعبة، جعل من القدس في ذيل قائمة الأولويات والاهتمامات العربية، فعدم الاهتمام لم يعد يقتصر على المستوى الرسمي بل تعداه الآن إلى المستوي الإعلامي والمستوي الشعبي. وكأن ثمة من يصر على أن تواجه القدس مصيرها وحيدة تواجه كل "طغاة الليل" وحدها- مع الاعتذار لمظفر النواب على التحريف البسيط لرائعته.
ذهب الزمن الجميل الذي كانت الحجارة في أيدي الصبية في شعفاط وفي الجلزون تتسابق مع الحجارة في أيدي الصبية في جباليا والشاطيء، ذهب الزمن الجميل الذي كانت فيه الانتفاضة الفلسطينية شعلة واحدة تلتهب في كل الأماكن مرة واحدة. رحم الله ذلك الزمن الذي كانت فيه وحدة الحال هي سمة الحياة في فلسطين. ذهب ذلك الزمن الذي لم يكن فيه ثمة فرق بين زقاق في غزة أو زقاق في سلوان. ذلك الزمن الذي كانت التضحية لا التمسك بمغانم الانقسام هي الغاية وهي البوصلة وهي الطريق. أما القدس فمن للقدس إلا القدس.

63

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية