ركزت المواقع الإخبارية الإسرائيلية في تغطيتها للجريمة الإسرائيلية الأعنف منذ حرب عام 2014، المتمثلة بقصف نفق في منطقة شرق خان يونس على تصريحات قادة عسكريين وسياسيين ومحللين إسرائيليين تستبعد التخطيط المقصود والمبيت للمساس بعملية المصالحة الفلسطينية ، وكأن إسرائيل تقول بوضوح أن هذا هو الهدف الحقيقي من وراء هذا العدوان الذي أوقع عددا كبيرا من الشهداء والجرحى، حيث وصل عدد الشهداء إلى تسعة حتى كتابة هذا المقال، من بينهم قائد المنطقة الوسطى في "سرايا القدس " الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي عرفات أبو مرشد. ولا شك أن محاولات التبرير الإسرائيلية الممجوجة والتي أثارت حفيظة المتطرفين من أمثال الوزير نفتالي بينت، ليست موجهة للفلسطينيين، على العكس من ذلك إسرائيل تريد من الفلسطينيين التصعيد وخلط الأوراق والبقاء في نفس المكان بكل ما يحمله من معاناة إنسانية للمواطنين في قطاع غزة ، والحفاظ على وضع الانقسام وتخريب جهود المصالحة، وهي موجهة اساساً إلى الإدارة الأميركية ومصر. فإسرائيل حريصة على عدم إغضاب الرئيسين دونالد ترامب وعبد الفتاح السيسي.
ما تقوله إسرائيل يضعف ويعري موقفها، فهي تدعي أنها تراقب النفق منذ فترة طويلة وأنها تعلم أنه غير معد للاستخدام الفوري، يعني أنه لا يشكل "قنبلة موقوتة" بالمفهوم الإسرائيلي الذي يتطلب تدخلاً سريعاً لمنع وقوع عملية عسكرية فلسطينية. وأنها لا تقصد اغتيال شخصية قيادية، ولا تستهدف التصعيد. فإذا كان الكلام الإسرائيلي صحيحاً فلماذا أقدمت على هذه الجريمة التي قد تقوض الوضع القائم وتدخل المنطقة في مواجهات دموية، في هذا التوقيت بالذات؟!
الحكومة الإسرائيلية لديها مشروع واحد وحيد مطروح على أجندتها اليومية وهو مسألة الضم، مرة ضم مستوطنات القدس الواقعة في الأراضي المحتلة منذ عام 1967، ومرة ضم مناطق واسعة في الضفة بصورة عامة. وحتى يصبح الضم أكثر واقعية لا يحتاج فقط لقرار في الحكومة و الكنيست بل أيضاً لإحداث تغيير في الوقائع والحقائق على الأرض، وهذا ما تفعله الحكومة بالمصادقة المتكررة على آلاف الوحدات السكنية الاستيطانية. وعدا ذلك تريد إسرائيل تطبيعاً مع الدول العربية، وليست معنية باي عملية سلام مع الفلسطينيين. ولهذا ستكون في موقف غير مريح إذا طرح الأميركيون أي مشروع يتضمن ولو انسحاباً جزئياً من المناطق الفلسطينية المحتلة وخاصة مناطق (ج) التي تريد ضمها إلى إسرائيل. ومن مصلحة إسرائيل ألا تكون الظروف مهيأة لأي مشروع سياسي يتعدى خلق علاقات طبيعية وتحالفاً مع الدول العربية ضد إيران.
لا مشكلة على الإطلاق في أن تساهم إسرائيل في تدمير أي تطور قد يقود إلى تغيير إيجابي في المنطقة بدءاً بالمصالحة وانتهاءً بعملية سلام حقيقية حتى لو كانت غير واضحة للعيان في المدى المنظور. فالمتضرر الأكبر من المصالحة الفلسطينية هو المشروع الاستيطاني الذي تقوده حكومة نتنياهو- بينت، ومجرد الإعداد لاطلاق مشروع سياسي بغض النظر عن مضمونه وجدواه يعني خسارة إسرائيلية حتى لو كانت مؤقتة. فمثلاً اضطرت حكومة نتنياهو إلى تأجيل عن التصويت على مشروع ضم مستوطنات القدس بضغط من إدارة ترامب التي على ما يبدو تعرضت لضغوط عربية. والكل يعلم أن مشروع المصالحة الفلسطينية الداخلية هو حجر الاساس لقيام دولة فلسطينية مستقلة حتى لو فشلت جهود واشنطن وخططها للصفقة الكبرى أو صفقة القرن . والمهم بالنسبة لهذه الحكومة هو ألا تتهم بتقويض الجهود الأميركية وبالتخريب عليها. ولهذا ستحاول اختيار مربعات مريحة لها للتخريب بشكل غير مباشر كعملية أول من أمس، مع العلم أن إسرائيل بإمكانها تدمير النفق على سبيل المثال بطريقة أخرى لا توقع خسائر في الأرواح طالما أنه لا يشكل خطراً داهماً، كما فعلت في أوقات سابقة عندما كانت تقصف مناطق خالية بها أنفاق.
إذن، نحن أمام محاولات إسرائيلية تحاول من خلالها الحكومة اليمينية المتطرفة التذاكي على العالم بأنها تقوم بأمور مضطرة لها لا تقصد من خلالها التخريب، وأنها مسكينة ومهددة وتعمل في إطار الضرورة، مع أنها تقود إلى تصعيد قد يدمر كل شيء، وبالذات احتمال حصول اي تقدم في العملية السياسية. فالعدوان على غزة، والبناء الاستيطاني المكثف، والاعتقالات اليومية، وهدم البيوت، وقتل المواطنين الفلسطينيين بدم بارد كما حصل مع الشاب محمد عبد الله موسى، الذي كان يسوق سيارته مع شقيقته في منطقة غرب رام الله وأطلقت قوات الاحتلال النار عليه بدم بارد فقتلته وأصابت أخته بحجة الاشتباه بمحاولة تنفيذ عملية دهس.
ربما التطور الإيجابي الأهم في الساحة الفلسطينية هو أن القيادات الفلسطينية باتت تعي وتدرك المآرب الإسرائيلية من وراء هذه الجريمة وهي تتصرف بحكمة وأول الردود الإيجابية والذكية كان الإصرار على مواصلة خطوات المصالحة والتأكيد على عدم العودة إلى الوراء في نفس اللحظة التي يطالب فيها الفلسطينيون بمعاقبة الاحتلال على جريمته هذه. والتطورات المتعلقة بتسلم المعابر تشير بشكل قاطع بأن القرار الفلسطيني هو تغليب المصلحة العليا على أية اعتبارات أخرى. وهذا في الواقع يبعث على التفاؤل والارتياح ليس فقط في أوساط الشعب الفلسطيني بل وكذلك في إطار الأمة العربية الأوسع والمنظومة الدولية المؤيدة لحقوق شعبنا. فإفشال مخططات الاحتلال هو وسيلة مقاومة لا تقل نجاعة عن المقاومة المباشرة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية