54-TRIAL- في فبراير من العام الماضي نظم مركز دراسات الأمن القومي الاسرائيلي بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر مؤتمرا حول "تحديات الحرب في المناطق المكتظة بالسكان" نشرت وقائعه في عدد خاص في مجلة "شؤون سياسية وعسكرية" التي يصدرها المركز، قبل ثلاثة أشهر فقط من شن دولة الاحتلال عدوانها الأحدث على منطقة هي من الأكثر كثافة سكانية في العالم.
أوراق كثيرة قدمت في المؤتمر شكلت الأساس "الأخلاقي" والفقهي والقانوني لما سيرتكب لاحقا من جرائم حرب في غزة كمنطقة مكتظة بالسكان، ولما يبدو أنه محاولة جادة تهدف إلى وضع قواعد جديدة في افتراق مع تلك المستقرة والمتعارف عليها من القانون والأخلاق، التي شكلت حصيلة الانتاج الحضاري وفق السياقات التاريخية.
إحدى تلك الأوراق قدمها المدعي العام العسكري الاسرائيلي الميجور جنرال دان أفروني، الذي لم يشر في أي مكان فيها إلى أنها تعبر عن رأيه الشخصي، ما يعني أنها تعبر عن رأي جيش الاحتلال نفسه الذي يمثله. الفكرة الرئيسة للورقة تتلخص في ضرورة التمييز بين ما هو شرعي (legitimate)  وما هو قانوني (lawful).
يقول في ورقته واقتبس منها "إن جيش الدفاع الاسرائيلي يعمل وفقا لقوانين الحرب، مع أن اعتبارات الشرعية، التي تسللت في الخطاب الدولي، تمثل الآن تحديات جديدة وإضافية. إن التحدي الأساس هو في دحض الخلاف بأن الشرعية والقانون الدولي هما أمر واحد والشيء نفسه، وذلك بعيدا عن السؤال، للرد على وجهة النظر القائلة بأن ما يعتبره القانون الدولي العام كشرعي هو بالضرورة قانوني، وما يعتبره هذا الرأي غير شرعي بالضرورة غير قانوني. هذا الاعتقاد لا أساس له. إن القانون الدولي كما جرى توضيحه أعلاه، هو نظام ملزم ومؤسس، بينما الشرعية هي منتج للعلاقات العامة أو المصالح السياسية وأحيانا للعلاقات بين القوى السياسية. نتيجة لذلك، ليس كل فعل يتم تنفيذه من قبل جيوش الدول الأخرى ويعتبر شرعيا سينظر اليه بالضرورة على أنه "شرعي" عندما يتم اتخاذه من قبل جيش الدفاع الاسرائيلي. على رغم الانتقادات التي ينطوي عليها ذلك، فإنه لمن الخطأ وغير المرغوب فيه اهمال اعتبارات الشرعية، لذا فعلى جيش الدفاع أن يفعل وفقا للمثل القائل: لاتكن صائبا فقط بل ذكيا."
ما تضمنته الورقة يؤسس للقواعد الأخلاقية والقانونية بالاستناد إلى عدواني 2008-2009 وعدوان 2012 على غزة وما ارتكبته دولة الاحتلال من أهوال فيهما، شكل أساسا لما ارتكب من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لاحقا في العدوان الاخير على قطاع غزة.
وأزعم أن ما شهدناه من فعل وقول وسلوك ومبادرة قامت وما تزال تقوم به  دولة الاحتلال يجب النظر إليه بأنه رؤيتها الخاصة لما يبدو أنه "نهاية التاريخ"، ونهايته هنا تعني أفول المباديء والقيم والقواعد المستقرة، التي نظمت العلاقات الكونية وحكمت علاقات القوة وصنفت حقوق الضحايا، لاسيما في حالات النزاعات المسلحة،من جهة، ومن جهة ثانية، وضع أسس لمباديء جديدة بالممارسة الفعلية المتكررة التي تزداد جرعتها في شكل أشد ضراوة في كل تكرار لها، في تحلل فاجر ومنظم من قيود القانون الدولي وقواعد الشرعية الآخذة في الأفول.
ما يزيد هذا ال حماس للدفع بنظام قيم جديدة هو ما يوفره الفاعلون السياسيون الدوليون النفعيون ، كالولايات المتحدة وغيرها من أطراف المجتمع الدولي، والأخلاقيون، كالأمم المتحدة من خلال أمينها العام أو أجسامها السياسية الأخرى، من غطاء سياسي وأخلاقي وقانوني.
إن هذا الغطاء، الذي تحظى به دولة الاحتلال مترافقا مع حائط صد حديدي لأي ممكنات لاخضاعها للمحاسبة أو لتقديم أي من مجرمي حربها ممن أمروا أو نفذوا ما ارتكب من جرائم في غزة للعدالة، يجعل منها ليست دولة محصنة يتملكها شعور بأنها فوق كل المباديء والقوانين فقط، بل يجعلها تمعن في التأسيس لمباديء ومنظومة قيم أخلاقية وقانونية جديدة، وتصحح خطأ حضاريا وتاريخيا  ترى أن صلاحيته انتهت.
قبل العدوان على غزة بسنوات، أرست دولة الاحتلال مفهوما جديدا أطلقت عليه "المقاتل غير الشرعي"، واستقبل الحالمون من المدافعين عن ما تبقى من قيم، هذا الجديد بذهول، لأنه ينفي عمن يوصف به حقه في الحياه كما حقوقه الأخرى في حال وقوعه في قبضة العدو، لتستباح كرامته المتأصله وليهدر كل ما هو مرتبط بها من حقوق.
لم تُلقِ دولة الاحتلال بالاً لأي انتقادات، وبعد وقت قصير تبنت الولايات المتحدة الأميركية المفهوم ذاته، نظرية وممارسة، لترتكب أسوأ وأبشع انتهاكات حقوق الانسان، في حق من وقعوا في قبضتها وأودعتهم في معسكر "غوانتانامو" سيء الذكر.
وتمضي دولة الاحتلال قدما لتقرر متى شاءت أن تضع حدا لحياة أي إنسان في غزة، مهما كانت الخسارة الجانبية المرافقة (collateral damage)، بسقوط آخرين، أو تدمير ممتلكات وذلك باستخدم طائرات بدون طيار، لتحكم وتنفذ حكمها من دون محاكمة في حق من تشاء ووقتما تشاء، في قتل عمد وخارج إطار القضاء، يمثل في حد ذاته جريمة حرب وفقا لقواعد القانون الدولي، قوبل أيضا بذهول، وبعد وقت قصير نرى أن هذه الجريمة أصبحت أقرب إلى أن تكون "قصة نجاح" تبنتها الولايات المتحدة الأميركية، نظرية وممارسة، لتحاكم وتقتل من تشاء بطائرات بدون طيار كما في اليمن وافغانستان وباكستان والعراق وسورية.
هذه الجرائم يبدو لي أنها تتحول بتكرار ممارستها والتسامح معها من البعض وقبولها من البعض الآخر لتصبح في وقت قريب جزءا من القانون الدولي العرفي، الذي يشير نظام محكمة العدل الدولية إلى أنه يتألف من قواعد غير مدونة استمدت من "ممارسة عامة تم قبولها بوصفها تمثل قانونا"، وما هي إلا "مسألة وقت" في ظل التسامح الدولي معها وتوفير الغطاء إليها والنظر اليها كحق مشروع لدولة الاحتلال في دفاعها عن مواطنيها لتصبح جزءا من قواعد القانون الدولي.
إذن فالصواب، كما يقول المدعي العام العسكري لجيش الاحتلال، أن لاتعطي بالا للشرعية، وحتما للقانون، والذكاء أن تجعل من ذلك ممارسة، تحمل الضحية مسؤولية دمها في إجراءات شكلية، تمثل بذاتها (أي الإجراءات) جريمة حرب قبل أن تقوم بالممارسة عينها، كأن تأمر من يقطنون في نصف جغرافيا قطاع غزة، باخلائه والتكدس في النصف الأخر، وتدمر أحياء بأكملها، بإلقاء مناشير على تلك المساحة مطالبة السكان بإخلائها فورا.
أن تكون ذكيا هو أن تحذر سكان مبنى متعدد الطوابق في غزة تسكنه عائلة مكونة من عشرات الأفراد في منتصف الليل بإخلائه لأنه سوف يقصف في مدة زمنية أقصاها ثلاث دقائق، بإطلاق "صاروخ تحذيري" على سطح ذلك المبنى، وهو صاروخ قاتل تسبب في استشهاد أفراد على سطح منزل كوارع في خانيونس ومنزل شحبير في غزة، في وقت لن يتمكن فيه سكان المبنى من إخلائه، خصوصا وهم نيام، ومن بينهم كبار في السن وأطفال، ومعوقين، وحتى لو تمكن سكان المبنى من إخلائه، فإن عليهم مغادرة دائرة خطر مساحتها 500 متر مربع.
أن تكون ذكيا هو أن تقصف خزانات وقود محطة الكهرباء وتشعل فيها النيران وتدخل غزة في ظلام فوق ظلام، وأن تجعل الأمين العام للأمم المتحدة "يأكل الطعم" بادعاء أن أحد الجنود تم أسره ليخرج للعلن فيما يشبه توفير غطاء لما سيُرتكب لاحقا في رفح من استباحة لدماء الضحايا من المدنيين في ما عرف بيوم الجمعة الأسود في رفح (الأول من أغسطس 2014)، حيث قصف كل ما هو متحرك في رفح من بشر أو أنعام الأرض.
أن تكون ذكيا هو أن تقصف مستشفيات في قطاع غزة وطواقم طبية وسيارات الإسعاف والدفاع المدني، وتحول دون إنقاذ من أصيبوا ليتركوا ينزفون حتى الموت، وأيضا أن تقصف محطات الصرف الصحي وآبار المياه ودور العبادة وثلاثة أبراج لا يقل عدد طبقات أي منها عن عشر، لتترك ساكنيها من دون مأوى ومن دون أن يتمكنوا من أخذ متعلقاتهم الشخصية.  أن تكون ذكيا هو أن تقصف مدرسة تابعة لـ"اونروا" لجأ إليها من أجبروا على الرحيل عن بيوتهم أو جرى تدميرها كليا، في فعل ذكاء سابق، ظنوا أن العلم الأزرق سوف يوفر لهم حماية مفقودة فيُقصفون وتقصف الخرقة الزرقاء.
أن تكون ذكيا هو أن تقصف منزلا مجاورا لمنزل عائلتي بعد منتصف الليل بساعتين، في نموذج لما تعرضت له المئات من منازل المدنيين الآمنين، ليسقط والدي ذو التسعة والسبعون عاما وزوجته ذات الخمسة والخمسين عاما وحفيدته ذات الأعوام الأربعة وهم في فراشهم نائمين، وليدمر المنزل والمنازل المجاورة.
الذكاء الذي يتحدث عنه المدعي العام العسكري، هو القول الواعي والمدرك بارتكاب جريمة الحرب، والسياسة الرسمية والمنظمة لدولة تتبنى جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية كسياسة رسمية ومنظمة، لاتخفيها، بل تجاهر بها، في ظل غطاء قانوني وسياسي يوفره فاعلون دوليون كثيرون يرون أن لها حقا في الدفاع عن نفسها، أي التسليم ليس بصوابها فقط، بل وبذكائها. 
في المقابل ذكاء الضحية يجب يكون مختلفا من حيث الجوهر والشكل بالإمساك بالشرعية، و الشرعية قولٌ لا ادعاء فيه، بل يتجسد، ممارسة وفعلا، بالدفاع عن المظلومية الفلسطينية والانتصار لدم الأبرياء وعذابات الضحايا وآلآمهم، والسير في طريق العدالة ذي الاتجاه الواحد إلى نهايته وهو الطريق الذي لارجعة فيه، مهما كانت الكلفة السياسية التي سوف يدفعها الشعب-الضحية. إن ذات الطريق يعني أنه لاخيار سوى التجه إلى محكمة الجنايات الدولية وذلك بالتوقيع فورا على ميثاق روما المنشيء لها، وهي محطة اجبارية يجب المرور فيها في الطريق العدالة ذو الاتجاه الواحد، لنحاكم ليس فقط "صواب" المدعي العام العسكري، بل ذكاؤه.
والذكاء هو أن تدرك الضحية أن الشرعية لا تصنع العدالة، بل تؤسس لها أخلاقيا، وتوفر لها بنية تحتية صلبة، وذلك بتعظيم الاشتباك السياسي والقانوني مع الاحتلال، ما يستوجب أن تتوافر لها كل الممكنات والروافع لتتجسد حقوقا تُمارس وحرية تُعاش.
127

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد