في كُتبِ التاريخِ درسْنا أن سببَ ضياعِ فلسطين هو تقهقرُ الجيوشِ العربيةِ أمام "عصاباتِ الهجانا "الإسرائيلية التي ضربتْ بيدٍ من حديدٍ ولم ترحمْ طفلًا ولا شيخاً ولا امرأةً، ولم تكن هناك قوى فلسطينية أو عربية تدافعُ وتمتلكُ السلاحَ الحديثَ للدفاعِ عن الأرضِ والعرض.

ما حدث في العامِ 1948 من أحداثِ التهجيرِ القصريةِ للفلسطينيين من فلسطين التاريخية وما يُعرفُ " ب النكبة ِ الفلسطينية " تلاها نكبةٌ أخرى في العامِ 1967 فيما يُعرفُ "بالنكسة "، وما بين النكبةِ والنكسةِ وقف العالمُ العربي متفرجاً على ضياعِ فلسطين من رأسِ الناقورة شمالاً حتى رفح جنوباً، ولم يقدموا شيئاً عملياً سوى حربِ الكرامةِ في العامِ 1968 ولكنّ تلك الحربَ كانتْ على أرضٍ غيرَ فلسطينية.

بعد الثورةِ المصريةِ في العامِ 1952 نادى الرئيسُ المصري جمال عبد الناصر بالقوميةِ العربيةِ والاتحاد العربي السوري وما رافق ذلك من أحداثٍ أفضت إلي اتفاقٍ مصري سوري على وحدةِ العملِ المشترك والرد المشترك، واعتقد الفلسطينيون أن ذلك يأتي في إطارِ خدمةِ القضية الفلسطينيةِ والتعجيلِ في إنهاءِ الاحتلالِ الإسرائيلي عن الأرضِ الفلسطينيةِ وإقامةِ دولةٍ فلسطينية، ولكن سرعان ما انتهى ذلك الحلمُ باتفاقِ السلامِ في كامب ديفيد بين الحكومةِ المصريةِ والحكومةِ الإسرائيلية والذي أعلن عنه "كأول خرق للموقف العربي تجاه دولة إسرائيل "وذلك في العام 1979 .

لم تصنعْ لنا القوميةُ العربيةُ على صعيدِ القضيةِ الفلسطينية شيئاً عملياً يمكنُ التحدثُ والبناءُ عليه سوى أنها احتضنتْ منظمةَ التحرير الفلسطينية وعملتْ على تركيزِ دعائمِها في بعضِ البلدان العربية ومدِّها بالمالِ والسلاحِ لضمانِ التمثيل الفلسطيني تحت إطارٍ موحدٍ يجمعُ الفلسطينيين ولا يفرقُهم وهذه من حسناتِ القوميةِ العربية، وما دون ذلك فكلُه كلامٌ على الورقِ.

حتى ذلك الحين لم يكن هناك أيُّ ردةِ فعلٍ فلسطينيةٍ تجاه الاحتلالِ الإسرائيلي على الأرضِ سوى بعضِ العمليات الفدائية وخطفِ الطائراتِ التي انتهجتها بعضُ المنظماتِ الفلسطينية، لذا تفطنت قيادةُ منظمةِ التحريرِ وحركة فتح إلي أهميةِ نقلِ الصراعِ إلي الأراضي الفلسطينية وذلك من خلال اندلاعِ انتفاضةِ الحجارة في العامِ 1987، وما لاحق ذلك من أحداثٍ في الأراضي الفلسطينية فقد أفضى إلي تأسيسِ حركةِ حماس والتي نادت بضرورةِ الكفاح المسلح ضد الاحتلالِ الإسرائيلي بدءاً بالحجارةِ والسكاكين والقنابل الصغيرة والأسلحة الأوتوماتيكية البسيطة.

لقد ظهر محورٌ جديدٌ يدعمُ انتفاضةَ الحجارةِ من خلال تبنى أفكارها مثل الجمهورية الإسلامية إيران وسوريا وحزب الله والعراق وبعض المنظمات الإسلامية، مما عجلَ في ضرورةِ التوصلِ إلي اتفاقِ سلامٍ مع الفلسطينيين ينهي الصراعَ في الأرضِ بأي شكلٍ من الأشكالِ فكانت مباحثاتُ مدريد وما تبعها من نتائجَ وصولاً لإبرامِ اتفاقِ سلام بات يُعرفُ باسم " اتفاق أوسلو" .

لم تكنْ نتائجُ اتفاق أوسلو مرضيةً لجميعِ الأطرافِ الفلسطينية فبعضُ الدولِ العربيةِ والإسلامية كان لها موقفٌ معارض لهذا الاتفاقِ والذي بموجبِه عاد عددٌ كبيرٌ من الثوارِ الفلسطينيين إلي قطاعِ غزة وأريحا معلنين إنشاءَ " السلطةِ الوطنية الفلسطينية".

وجاءت الضربةُ الجديدةُ للقوميةِ العربيةِ والممانعةِ العربية بدخولِ المملكةِ الأردنية على خطِّ إنهاءِ الصراعِ مع الاحتلالِ الإسرائيلي من خلال اتفاقِ وادي عربة والذي بموجبِه تكونُ الأردن أيضا قد خرجت من معادلةِ الصراعِ مع إسرائيل ، لتبقى الأرضُ الفلسطينية وحدَها تصارعُ الاحتلالَ الإسرائيلي فهناك هدوءٌ في هضبةِ الجولان وانسحابٌ من جنوبِ لبنان، وتطبيعٌ مع بعضِ الدولِ العربية بشكلٍ سري.

فيما بعد دخلت القضيةُ الفلسطينيةُ في منعرجِ المفاوضاتِ العقيمة التي لم تسمنْ ولم تغني من جوع ولم تحققْ للفلسطينيين أمنياتِهم بإقامةِ دولةٍ فلسطينية، فقد فشلتْ المفاوضاتُ في منتجعِ كامب ديفيد قبيلَ مغادرةِ الرئيسِ بيل كلينتون مقاليدَ الحكمِ في الولاياتِ المتحدة الأمريكية وعاد الرئيسُ الراحلُ ياسر عرفات إلي غزةَ رافضاً كلَّ الإملاءاتِ الأمريكيةِ والإسرائيلية، لتندلعَ بعدها شرارةُ انتفاضةِ الأقصى بعد زيارةِ "شارون" إلي الحرمِ القدس ي مستفزاً مشاعرَ المسلمين كافة.

مع اندلاعِ انتفاضةِ الأقصى برزَ على الساحةِ العربيةِ محورٌ عربيٌّ جديدٌ يدعمُ المقاومةَ الفلسطينيةَ والكفاحَ المسلحَ ضد الاحتلالِ الإسرائيلي ورافضا للسياسياتِ الأمريكيةِ في الشرقِ الأوسط وبات فيما يعرفُ بعد بمحورِ" الممانعة العربية" تلك الدول التي ساهمت في دفعِ عجلةِ انتفاضةِ الأقصى من خلال دعمِها بالمالِ وفتحِ مكاتبَ للفصائلِ الفلسطينيةِ في بلادِها.

في ظل ما سبق تجبرتْ وتكبرتْ إسرائيلُ في حربِها وعدوانِها ضد الفلسطينيين فبعد غيابِ دولِ القوميةِ العربية والممانعة العربية وكل ما هو عربيٌّ يخدمُ القضيةَ الفلسطينيةَ، شنت حربَها على اتفاقِ أوسلو ولم تلتزمْ بتفاصيلِه وتأتي الحكوماتُ الإسرائيليةُ متعاقبة واحدة تل ولأخرى ترفضُ و تماطلُ ولم يحصلْ الفلسطينيون إلا على حصارِ المقاطعةِ وهدمِها وحصارِ عرفات وقتلِه فيما بعد.

ومنذ ذلك الوقت تفرقَ شمل العربِ الداعم للقضيةِ الفلسطينية خاصةً بعد اندلاعِ ثوراتِ ما يعرفُ " بالربيعِ العربي" وأصبح اهتمامُ المواطن العربي بالقضيةِ الفلسطينيةِ لا يذكرُ إلا إذا وقعتْ غزة تحت وطأةِ حربٍ إسرائيليةٍ جديدةٍ فتكون غزة تنزفُ والشارعُ العربي يهتفُ غزة غزة أرض العزة .

 ففي ظلِّ ما سبق انحصرت الألفاظُ والمسمياتُ من "الصراعِ العربي الإسرائيلي قبل أوسلو إلي الصراعِ الفلسطيني الإسرائيلي في ظلِّ عشرين عاماً من المفاوضاتِ وقريبا ربما يكونُ الصراعُ الغزيُّ الإسرائيليُّ في ظلِّ إدارةِ دونالد ترامب.

لقد لعبتْ إسرائيلُ على وترِ التعارضاتِ والتناقضاتِ الفلسطينيةِ وما الانقسامُ السياسي الفلسطيني إلا واحدٌ من تلك العقباتِ التي تقفُ في وجهِ الدبلوماسية الفلسطينية في عدمِ القدرةِ على جمعِ شملِ الفلسطينيين في دولةٍ لها حدودٌ وسيادة.

الموقفُ الآن بعد 69 عاماً من الاحتلالِ الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية هو غيابُ الدورِ العربي بشكلٍ نهائي عن تحريرِ فلسطين، إسرائيل تحكمُ قبضتَها على الضفةِ الغربيةِ وتمزقُ أوصالَها ببؤرٍ استيطانية، أما قطاعُ غزة فهو بمثابةِ سجنٍ محكم الجوانب، والقدس لها الله.

أين سنقيمُ الدولةَ الفلسطينيةَ على الورقِ أم على الأرضِ أم أنّ هناك إستراتيجيةً فلسطينيةً جديدةً قد تفاجئنا بها فصائلُنا وقيادتُها، تجمعُ الفلسطينيين من جديدٍ بعد أن تخلى عنهم الأشقاءُ العرب وتركوا لهم الميدانَ وحدَهم يقرروا مصيرَهم بعد سلسلةٍ من المعاركِ الدبلوماسية في أروقةِ الأممِ المتحدةِ ومجلسِ الأمن للحصولِ على دولةٍ أو دويلة.

لست كارها لحلمِ الدولةِ ولكني أرى أن إسرائيلَ ذكيةٌ جدا فهي تريدُنا أن نحاربَها ونتعاركَ معها في أروقةِ الأممِ المتحدةِ بشكلٍ دبلوماسي لأنها تعلمُ أن جميعَ الإداراتِ الأمريكية السابقة واللاحقة لن تخذلَها ولن تعطي الفلسطينيين شيئاً إلا إذا رضي عنه الإسرائيليون وأن الحصولَ على دولةٍ رغم أنف إسرائيل من خلال الأممِ المتحدةِ ومجلسِ الأمن فهو ضربٌ من ضروبِ الخيالِ السياسي .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد