تركز اهتمام دراسات السلوك البشري قبل الحرب العالمية الثانية على ثلاثة محاور: معالجة الأمراض العقلية، تحفيز الإبداعات الإنسانية، واكتشاف المهارات وتطوير الشباب. ولكن انقلبت الموازين بعد الحرب فأصبح البشر في نظر علماء السلوك البشري مجرد ضحايا عاجزين، تقيدهم مؤثرات داخلية وخارجية. فتحول اهتمام العلماء من اكتشاف المهارات والمواهب إلى تصحيح العقول المتهلهلة.
رفض بعض علماء السلوك البشري هذا التوجه؛ لأن وظيفة الطب النفسي لا يقتصر على تحري نقاط الضعف فحسب، بل يتعداها إلى تنمية المهارات وشحذ الطاقات الإنسانية الإيجابية؛ كالتفاؤل، والأمل، والصدق، والشجاعة.
من هنا بدأ علم جديد يركز على الإيجابيات ويكشف الستار عن أسرار النفس البشرية وطاقاتها الإيجابية اللامتناهية.
إن نوعية الأفكار التي يودعها الإنسان في عقله هي التي تحدد مسار حياته. إحدى المسلمات في علم النفس البشري أن المعلومات تنتقل من العقل الواعي إلى اللاواعي. العقل اللاوعي لا يحكم على الأفكار من حيث صحتها أو خبثها، ولكنه يخزنها ليتم ترجمتها في مرحلة لاحقة إلى سلوك. فإذا أردنا أن نغير سلوكنا فيجب أن يكون ذلك من خلال العقل الباطن. فنبدأ باختيار الأفكار الإيجابية ونوردها للعقل مراراً وتكراراً حتى يتم ترجمتها إلى سلوك.
من هنا، يمكنني تعريف التفكير الإيجابي بأنه تغذية العقل بالأفكار والعبارات السليمة والإيجابية والتي سيتبناها العقل لاحقاً وتنعكس على سلوك الإنسان وتصرفاته، وعدم السماح للمؤثرات الخارجية بالسيطرة على سلوكيات الفرد.
ولنفهم التفكير الإيجابي بشكل أفضل، إليكم هذه القصة. دخل صبي صغير إلى موقع عمل صناعي ليشرب الماء، وبعد أن سكب لنفسه كوباً، صرخ عليه أحد المهندسين قائلاً: "توقف! أنت مجرد عامل فقير. الماء للمهندسين فقط." أثّرت هذه العبارة في نفس الصبي، وظلت تتردد في نفسه كثيراً ويقول: "لماذا منعت من شرب الماء؟ هل لأنني صبي فقير؟ هل سأتمكن من شرب الماء لو أصبحت مهندساً" فكان هذا التفكير الإيجابي هو نقطة تحول فارقة في حياة هذا الصبي. فكد واجتهد حتى حصل على منحة لدراسة بكالوريوس الهندسة الجيولوجية في أمريكا.
بعدها عاد الصبي إلى السعودية مهندساً واثقاً من نفسه وتمكن من شرب الماء الذي حرم منه قبلاً. وتنقل بين المناصب حتى أصبح مديراً للشركة التي حرم فيها يوماً من شرب المياه بل وأصبح رئيساً للشخص الذي حرمه من شرب المياه.
قدِم هذا الشخص للرئيس وأراد أن يعتذر منه على ما بدر منه ذلك اليوم. فرد المدير: "بل أود أن أشكرك من أعماق قلبي لأنك لو لم تسمح لي بشرب الماء ذلك الوقت لم صرت على ما أنا عليه الآن." هل تريد أن تعرف من هذا الصبي؟ إنه المهندس علي بن إبراهيم النعيمي - وزير البترول والثروة المعدنية السابق في المملكة العربية السعودية.
فبيت القصيد أننا ربما لا نستطيع تقييد تصرفات الآخرين تجاهنا ولكننا نحن المسئولون أولاً وأخيراً عن تصرفاتنا. هنا تكمن قوة التفكير الإيجابي وقدرته على التأثير على أفكارنا وسلوكياتنا بل وحياتنا كلها أيضاً.
ذكرت فيرا بيرا في كتابها "التفكير الإيجابي" خطوات لتطبيق التفكير الإيجابي في حياتنا اليومية. أولاً، الانتباه إلى نوعية الأفكار التي تدور في الذهن. استبدل الأفكار السلبية، كالكره، والحسد، والإحباط بأخرى إيجابية لأنك إذا لم تتخلص منها الآن فإنها ستنمو وتكبر وتتحول إلى عادة وسلوك. ثانياً، النظر إلى الجانب المشرق من المواقف التي تصادفنا. فمثلاً، إذا تأجل موعد إقلاع الطائرة التي ستسافر بها، فلا تلجأ للعصبية والتذمر بل فكر في طريقة تستثمر فيها وقتك بشيء ممتع كمطالعة كتاب لطالما أردت قراءته أو الاستماع إلى برنامج هادف. ثالثاً، توقف عن تمثيل دور الضحية. فلا تقل: "الحياة صعبة وأنا سيء الحظ" بل قل "أنا شخص سليم، ووهبتني الحياة الكثير من النعم التي يمكنني الاستمتاع بها." رابعاً، تجنب صيغ النفي واستبدلها بصيغة المضارع؛ لأن العقل الباطن يأخذ كل المعلومات بشكل حرفي فعندما تقول:"سأكون واثقاً من نفسي" فإن العقل الباطن سينتظر حتى يأتي الوقت المناسب لتفعيل الثقة بالنفس.
ختام القول، إن التفكير الإيجابي لا يعني أن تخدع نفسك، بل أن تغير المنظور التي تنظر به نحو الأشياء من حولك.
والآن، ماذا عنك؟ عندما تواجه موقفاً مزعجاً، هل ستلجأ إلى التذمر والغضب، أم ستضع الأمور في موازينها وتنظر إلى الأمر بإيجابية أكثر؟ ماذا رأيك في أن تبدأ اليوم بتطبيق هذه الخطوات لتنعم بحياة أكثر هدوءاً وسعادة؟
emad@apextac.net إيميل الكاتب:
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية