ثمة فارق جوهري في ردود الفعل على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة بين ما يصدر عن دوائر القرار في الدول العربية وشبيهاتها من دول العالم المتخلفة، وبين ما يصدر عن الدول الديمقراطية أو الدول التي تثق بقدراتها.

تتسم ردود الفعل العربية الرسمية بقدر من المجاملة والتملق والترحيب الكاذب أو الذي ينطوي على تفاؤل غير مدروس أو رغبوي، لا يرى فيما يصدر عن ترامب من أقوال وأفعال سوى نقطة واحدة أو موقف قد يخدم رؤيتها أو بعض مصالحها القومية.

يبدي الزعماء العرب احترامهم لمن اختاره وارتضاه الشعب الأميركي ويتغنون بالديمقراطية الأميركية رغم أنهم غير ديمقراطيين ولا يحترمون إرادات شعوبهم بل يفعلون المستحيل لتجنيب أنظمتهم مثل هذا الاختبار.

تبقى السياسات والرؤى والمواقف على حالها في انتظار فعل أميركي أو سياسة ما حتى يمارس العرب سياستهم المعهودة القائمة على رد الفعل، والسبب هو غياب المؤسسة، وغياب التخطيط الإستراتيجي العلمي، وتغييب الفكر والثقافة لصالح سياسة الفرد ومنهج التجريب.

تتسم بالواقعية ردود الفعل التي تصدر عن أنظمة ديمقراطية أو أنظمة تحترم شعوبها ومصالحها فيطغى منطق الحذر والتحوط المسبق، ومن ذلك مثلاً أن الأصوات الداعية لأن تعتمد الدول الأوروبية على نفسها أكثر في الدفاع عن نفسها أخذت ترتفع بقوة بعد فوز ترامب.

ومن ذلك أيضاً، أن فرنسا ألغت من أجندتها عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، الذي كان له مقدراً أن ينعقد قبل نهاية هذا العام. تلغي فرنسا هذه المبادرة لا لنقص في الدوافع والأهداف ولا بسبب الرفض الإسرائيلي الذي اتضح منذ بداية طرحها، ولكن لأنها تعرف أن الولايات المتحدة بإدارتيها القديمة والجديدة ترفض عقد هذا المؤتمر، وترفض بالأساس أن تمنح فرنسا أو أي دولة أخرى فرصة أن تشكل بديلاً أو اختراقا أو تجاوزاً للاحتكار الأميركي للملف. حتى إسرائيل، التي ترقص حكومتها طرباً لفوز ترامب الصديق الأقرب لها تاريخياً كما يصرح هو، اعتمدت ردود فعل متحفظة قبل أن يقوم ترامب باختيار الفريق الذي ساعده.

على أن انقلاب الموقف الإسرائيلي من التحفظ إلى الترحيب الشديد لم يمنع صحيفة "هآرتس" من أن تحذر من إمكانية وقوع حرب عالمية ثالثة نووية من شأنها أن تهدد الحياة على الكوكب.

تنصح هآرتس بضرورة الشروع بإعداد ملاجئ للاحتماء من السلاح النووي، وتستند في ذلك إلى التوجهات المتطرفة لكبار المسؤولين الذين اختارهم ترامب من بين غلاة اليمين المتطرف وعلى رأسهم ستيف باتون الذي سيكون مستشاراً إستراتيجياً للرئيس.

في الأصل، إن فوز شخصية مثل ترامب على رأس الدولة الأقوى على العالم يشكل وفق كثير من التحليلات نقطة تحول في العلاقات الدولية ومراكز القوى التي تتجه نحو زعزعة مكانة الولايات المتحدة، وتقدم العديد من الدول للصراع على القوة في عالم متعدد الأقطاب.

ترى مجلة "فوربس" الأميركية أن المشهد السياسي في العالم سيتغير بشكل كبير بحلول العام 2030 وأن عدد الدول العظمى سيزداد ليشمل عدا الولايات المتحدة كلاً من الصين وروسيا والهند واليابان وألمانيا، وأن الصين اليوم تجاوزت الولايات المتحدة في إطار الدول الأكثر نمواً، وتتوقع المجلة الأميركية أن يرتفع معدل الإنفاق على الدفاع في إطار سباق التسلح والتنافس على مصادر القوة، بحيث يتجاوز 1.6 تريليون دولار التي جرى إنفاقها عالمياً العام المنصرم 2015.

ليس بعيداً عن التحليلات والتقديرات المتفائلة والمتشائمة أن السياسة الممارسة على أرض الواقع وتتجلى بوضوح شديد في منطقة الشرق الأوسط، هذه السياسة تضفي مصداقية كبيرة على التحليلات التي تصدر عن بعض المفكرين والكتاب.

في ضوء هذه القراءة لا مبرر للانتظار ولا مبرر إطلاقاً لإصدار مواقف غير منطقية تقول بالاستعداد للعمل مع الإدارة الجديدة طالما أن الكل بات يعرف أن إدارة ترامب في أحسن أحوالها لن تختلف سياساتها عن سياسات الإدارة الحالية والإدارات التي سبقتها، خصوصاً في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني والعربي- الإسرائيلي.

أولويات هذه الإدارة التي ترتبط بمخاوفها، تضع "داعش" والإرهاب أولاً، ثم إيران وكوريا الشمالية، ويتبعها روسيا والصين وكل لأسبابه.

ليس من أولويات إدارة ترامب ملف الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي والحقوق الفلسطينية وعملية السلام، ومن الواضح أن إدارة هذا الملف متروكة لإسرائيل وهذا ربما الاستنتاج الأهم عند مراجعة التدخلات الدولية في عملية السلام منذ انطلاقتها لتوقيع اتفاقية أوسلو. بمعنى أو بآخر، فإن الأمل في إعادة الحياة لعملية السلام قد انتهى ليترك المجال للصراع ومنطق القوة إلى قوة المنطق وما يجري في المنطقة العربية، وهي خير شاهد على ذلك.

ما سلف يشير إلى تفكك التحالفات التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد مرحلة القطبية الواحدة بما في ذلك انتهاء مرحلة مشروع مرشال كآليات وأهداف وتكاليف، بل ربما سعت الولايات المتحدة لجباية الثمن بأثر رجعي من أوروبا ومن الدول الغنية التي اعتمدت في أمنها على الولايات المتحدة.

إذا كان الكل يسعى لمراكمة القوة الذاتية، ويبحث عن تحالفات جديدة لتعزيز مكانته وسط هذا التنافس المحموم والصراع العظيم، فإن ذلك يوجب على الفلسطينيين أن يبحثوا، بتواضع، عن مصادر قوتهم ولإعادة بناء ذاتهم حتى يتمكنوا من الصمود في وجه عواصف عاتية تزأر من كل حدب و صوب.

في هذا الإطار، ليس لنا أن نضيف على ما يقوله الفلسطينيون كل الوقت دون أن يفعلوا شيئاً، بالمعنى العملي، يؤدي إلى تغيير واقع الحال المتردي الذي يجعلهم متخلفين عن ركب المتغيرات ولهذا نقصر الأمر كحد أدنى على ضرورة دعم عوامل صمود الفلسطيني على أرضه، مراهنين على حركة التاريخ التي ستنصفهم يوماً ما..

المراهنة على حركة التاريخ ليست مسألة تنجيم أو صلاة ودعاء، وإنما هي حقيقة مستمدة من أن إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة تتعرضان للانفجار الداخلي بسبب تزايد العنصرية والعدوانية أم أن هناك من لا يزال يشكك في ذلك؟!.

إذا كان الأمر واضحاً في دولة الاحتلال فإن ثمة من يتوقع أن تشهد الولايات المتحدة صراعاً وتمزقاً بين شمالها وجنوبها، وما الاحتجاجات التي تظهر في شوارع أميركا وتجاوزتها إلى فرنسا على فوز ترامب سوى بداية الشرارة.  

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد