أخيراً عبرت إسرائيل عن رفضها التام للمبادرة الفرنسية والتي رفضتها منذ اليوم الأول لإطلاقها. وهذه المرة تمت إزالة الغموض الذي يجعل الفرنسيين ربما يتمنون أن تعدل حكومة إسرائيل موقفها حتى انعقاد المؤتمر الدولي للسلام الذي من المفروض أن يعقد في باريس في الشهر القادم وتدعى إليه إسرائيل. والآن بات على الفرنسيين أن يقرروا ماذا يفعلون إزاء الرفض الإسرائيلي، هل يتجاهلون الموقف الإسرائيلي ويمضون قدماً في التحضيرات، وماذا سيكون موقف الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية غير المتحمسة أصلاً للفكرة وتميل أكثر للمفاوضات المباشرة كسبيل وحيد لإحداث تقدم في العملية السياسية؟ وهل ستذهب ربما إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار عن الاستيطان ومرجعيات العملية السياسية؟
في الواقع تؤكد الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو على تجاهلها لأي محاولة دولية للتدخل في تسوية الصراع بغض النظر عن مدى جديتها وقدرتها على إحداث اختراق حقيقي، لأن المبدأ الذي تحتكم إليه المؤسسة الإسرائيلية يقوم على الأمر الواقع وموازين القوى على الأرض. والتاريخ يثبت أن المرات التي انسحبت فيها إسرائيل من أرض عربية كانت تحت ضغط السلاح والقوة بدءاً من عدوان عام 1956 على مصر حيث أجبرها التهديد والإنذار الدولي على الانسحاب، مروراً بالانسحاب من جنوب لبنان تحت ضغط ضربات المقاومة اللبنانية في ومقدمتها (حزب الله)، والانسحاب من قطاع غزة حتى لو كان خطوة أحادية الجانب هدفها إشاعة الفوضى وإضعاف وتدمير السلطة الوطنية أتى بفعل الضربات التي تلقاها المستوطنون وقوات الاحتلال والتي جعلت كلفة الحفاظ على أمن بضعة آلاف من المستوطنين أمراً مكلفاً للغاية.
وفكرة المؤتمر الدولي أو أي تدخل دولي هي العمل على إحداث توازن ما في موازين القوى في غرفة المفاوضات، بحيث لا تعتمد على تفوق إسرائيل وسيطرتها على الأرض، فالمرجعية هنا قواعد وقرارات دولية وليس ما يملكه كل طرف من أوراق القوة، لأن الاحتكام إلى القوة سيؤدي في النهاية إلى فرض موقف إسرائيل على الطرف الفلسطيني الأضعف، والذي يكاد لا يملك أوراقاً تساعده على فرض أي موقف بعد تغير الوضع الميداني وفقدان الفلسطينيين لخيار الكفاح المسلح الذي أصبح صعباً للغاية ومعقداً في ظل الوجود العلني للفصائل وقياداتها وقدرة إسرائيل على المس بتنظيمات المقاومة، وفي ظل وجود السلطة التي أضحت مكاسب وامتيازات لا يريد المتنفذون التخلي عنها، وهذا ما سيحصل فور اعتماد خيار المقاومة المسلحة، بالإضافة للعامل الدولي الذي لم يعد يقبل بالعودة إلى المواجهات المسلحة بعد كل هذه السنوات من السلطة والاستثمار الدولي فيها، وفي ظل الانقسام الفلسطيني المدمر الذي أضر بشدة بالمشروع الوطني وأضعف قدرة الشعب الفلسطيني على مواجهة التحديات المصيرية، وأيضاً بسبب الاضطرابات الإقليمية العاصفة والحروب الأهلية والصراعات بالوكالة التي تشهدها المنطقة. وكذلك لضعف الموقف العربي بعد الحرب على العراق وتمزقه والحرب على سورية وحرب الاستنزاف التي تشهدها مصر ضد المجموعات الإرهابية، وانخراط دول عربية في حروب إقليمية داخل دول عربية لحسابات غريبة غير مفهومة تستهلك فيها الأموال والقدرات العربية بشدة.
فلماذا تخضع إسرائيل لرغبة دولية في إنهاء الصراع طالما حكومتها تتبنى فكراً مسيحانياً وأيديولوجية متطرفة قائمة على اعتبار كل فلسطين ملكا لليهود وبالذات الضفة الغربية و القدس التي تبرر شعار أرض إسرائيل الكاملة، وبرنامجها يقوم على الاستيطان ومصادرة الأرض وخلق حقائق لا يمكن تغييرها نتيجة لمفاوضات ثنائية، وأكثر من ذلك لأن المواطن الإسرائيلي لا يشعر بالصراع ولا يدفع ثمناً يجعله يفكر بالتسوية أو يضغط على حكومته لإنهاء الاحتلال، وهو يتمتع بامتيازات الوضع الاقتصادي المزدهر والمتطور بالقياس إلى وضع دول الإقليم الأخرى حتى بالقياس إلى وضع دول كبرى في العالم. والأفضل لها أن تماطل إلى مالا نهاية، فكسب الوقت يعني محاولة استبعاد التسوية على أساس حل الدولتين.
فرنسا محكومة بهموم داخلية ودولية تعتقد أن الوقت قد حان لحل صراع يصل تأثيره إلى الساحة الداخلية الفرنسية بل الأوروبية التي باتت تكتوي بنيران التطرف والإرهاب والتي لا شك أن الاحتلال الإسرائيلي يشكل أحد المؤثرات المهمة في إشعالها. ولكن ماذا تمتلك فرنسا للتأثير على إسرائيل، بدون موقف حازم من مجلس الأمن والمجتمع الدولي، وبدون عوامل ضغط داخلية إسرائيلية تتيح تغيير موقف الحكومة، وبلا استخدام وسائل ضغط اقتصادية أو غيرها يمكن أن تساهم في موازنة الربح والخسارة في إسرائيل.
ربما يكون موضوع خلق وسائل الضغط داخل المجتمع الإسرائيلي هو الأسهل إذا لم يتغير الموقف الأميركي بعد الانتخابات، ولكنه يحتاج لوقت طويل وعمل مثابر يتجاوز مجرد انعقاد مؤتمر وتشكيل فرق عمل. وفي هذا الجانب من المفيد لفرنسا أن تحاول بلورة أفكار للمساعدة في خلق لوبي إسرائيلي ضاغط لدفع موضوع التسوية السياسية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني والحركات والأحزاب المؤيدة للسلام. وفي هذا السياق يمكن لمنظمات المجتمع المدني الفلسطينية أن تساهم في هذا الجهد الذي لا بد وأن يتوازى فيه العمل الرسمي مع العمل الشعبي. ودور منظمات المجتمع المدني يمكن أن ينقسم إلى قسمين الأول تشجيع المنظمات الإسرائيلية على العمل من أجل دفع فكرة التسوية على أساس المصلحة المشتركة في السلام، والثاني مواجهة الاحتلال على الأرض في إطار المقاومة الشعبية السلمية. والسؤال هو هل لدينا قدرة على اتخاذ مثل هذا الموقف في ظل وضعنا الحالي الرديء؟

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد