قد لا تكون التجربة المغربية في البحث عن شكل واقعي من البيئة الديمقراطية هي التجربة الوحيدة في الوطن العربي، لكنها التجربة الأعمق والأكثر رسواً والأنضج بكل تأكيد.
فبعد إقرار دستور 2011 وبعد أن أصبح بموجب هذا الدستور من حق الحزب الذي يحصل على أعلى عدد من المقاعد في البرلمان أن يشكل الحكومة، راهن الكثير من القوى الداخلية والخارجية على تعثر هذه التجربة، وروّجت تلك القوى لفكرة مفادها، أن هذه الانتخابات التي أعقبت الدستور الجديد لا تعدو كونها مجرد ردة فعل على الحراك الشعبي الذي شهده المغرب في اطار موجة "الربيع العربي" التي اجتاحت الوطن العربي في حينه.
وربما أن محاولات التشكيك في التجربة المغربية أساساً كانت تعود في حينه إلى كون الحزب الذي كلف بتشكيل الحكومة هو حزب العدالة والتنمية والذي له مرجعية إسلامية كما نعرف جميعاً.
وبالفعل قاد هذا الحزب الحكومة المغربية حتى السابع من تشرين الأول، الذي أعاد فيه الشعب المغربي تلك التجربة، تجربة البحث عن الديمقراطية بهدف العبور إلى المستقبل.
عاد حزب العدالة وحاز على أغلبية المقاعد وأعيد تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة كما ينص عليه الدستور المغربي، وهو الأمر الذي عاد ليؤكد أصالة وعمق ورسو هذه التجربة على أسس وقواعد دستورية ثابتة ومستقرة.
وأثبتت التجربة المغربية من خلال انتخابات السابع من تشرين الأول أنها عصية على التعثر وأقوى من محاولات التشكيك بها وأكثر متانة وقوة من كل حملات الترويج لتصويرها كتجربة عابرة أو مؤقتة أو مجرد حالة سياسية التفافية على ذلك الحراك الشعبي الذي أشير إليه.
لم يكن الشعب المغربي ليعطي حزب العدالة والتنمية الثقة من جديد (125) مقعداً مقابل (102) مقعد لحزب الأصالة والمعاصرة لولا أن تجربة حزب العدالة كانت مرضية ومقبولة، ولولا أن هذا الشعب شعر بعدم جدية ومصداقية الاتهامات التي وجهت لهذا الحزب، وخصوصاً الاتهام بالارتهان للإرادة الخارجية، وخصوصاً "الارتباط" بجماعة الإخوان، ذلك أن الشعب المغربي لديه حساسية عالية تجاه الارتباطات الخارجية ولديه من الوعي الوطني ما يكفي لحسن الاختيار.
لقد ثبت أن حزب العدالة حزب وطني، وهو حزب سياسي وليس حزباً دينياً، ويبدو أنه يعرف جيداً حدود التداخل بين الديني والسياسي ويعرف خطوط التماس بينهما، على الرغم مما شاب تجربته من بعض النواقص والقصورات، وعلى الرغم من أن الحملة الانتخابية قد شابها جرعات زائدة من التراشقات الإعلامية، إلاّ أن حزب العدالة قد تجاوزها بنجاح ملفت، كما لم يتردد حزب الأصالة بتهنئة الحزب الفائز في مشهد سياسي راقٍ ومتحضر، كالمشهد الذي نألفه في البلدان الديمقراطية العريقة.
دخلت التجربة المغربية مرحلة النضج على الرغم من كل ما تابعناه من اتهامات واتهامات مضادّة.
واضح أن الدستور الجديد والإرادة السياسية الحاسمة للملك المغربي محمد السادس بإنضاج التجربة المغربية وبالارتقاء المطلوب للبيئة السياسية فيه قد أتت بأكلها. لم يكن لذلك أن يتحقق بالمقابل لولا أن الوعي الوطني قد وصل إلى ما وصل إليه من تطور كبير في معيارية الأحكام والاختيارات لدى قطاعات متزايدة من الشعب المغربي.
لكن أين تكمن فرادة التجربة المغربية وقوتها يا ترى؟
أغلب الظن أن هذه الفرادة والقوة تكمن في جملة من العوامل الموضوعية والتاريخية وكذلك الذاتية الخاصة.
لعلّ القضية الجوهرية هنا هو أن ما يصطلح عليه (الإسلام السياسي) فشل في مصر وتعثر في تونس لكنه نجح في المغرب. فحزب العدالة على ما يبدو يرى في مرجعيته الإسلامية شأناً ثقافياً من حيث الجوهر، وهو يتصرف كحزب سياسي أولاً ولا يتردد في التأكيد على رفض الارتباط الخارجي من حيث المبدأ، وهو يولي أهمية خاصة لتثقيف الإيمان بدلاً من حشره في زوايا ضيقة وبدلاً من إقحامه في الشأن السياسي المباشر أو في فهم وإدارة العلاقات المجتمعية.
وإذا ما تمعّنا في التجربة المصرية فإننا نجد العكس من هذا الفهم وعلى النقيض منه تماماً، في حين نجد أن التجربة التونسية قد تعثرت في الفترة التي تولى فيها حزب النهضة مقاليد السلطة بعد الانتخابات التي أعقبت "الثورة" هناك، وهو الأمر الذي أدى بهذا الحزب إلى البدء بمسار مراجعة ينطوي على قدرٍ هام من الأهمية على كل حال.
إذن هناك مخاض سياسي كبير تعيشه المنطقة ويعيشه الوطن العربي فيه صراع على الهُويّة وصراع على السلطة وصراع على مسار التنمية وآليات الدخول إلى المستقبل وفي هذه الصراعات الأربعة (وربما أخرى كثيرة) يبدو المغرب الأكثر تأهيلاً من أشقائه حتى الآن.
نعرف أن الديمقراطية تظل في وضع متأرجح بمعزل عن التربية الديمقراطية وعن الثقافة الديمقراطية، ولكننا نعرف بالمقابل أن تسريع هذه التربية والثقافة وترسيخها أمر غير وارد حدوثه بالقدر المطلوب دون إرادة سياسية من قبل الدولة والمجتمع على حد سواء، ودون قواعد تشريعية راسخة ودون مؤسسات سياسية ناضجة، والمعركة على على الصعيد ما زالت في بدايتها في بلدان وهي لم تبدأ في بلدان أخرى، معركة طويلة، وهذه هي الخبرة الواقعية التي نعرفها ونعايشها، لكن الشيء المؤكد أن المغرب الشقيق يقف اليوم في صدارة هذا المشهد.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية