على الرغم من أنها انتخابات مجتمعية بحتة فإننا حوّلناها مثل كل شيء إلى منافسة سياسية. فالانتخابات البلدية انتخابات خدماتية صرفة، ذات ميول سياسية خفيفة، وهي في بعض الدول لا تعكس المزاج السياسي العام، بل إنه في بعض الدول قد يميل المواطن إلى التصويت لحزب معين حين يتعلق الأمر بالمجلس البلدي فيما يميل للتصويت للحزب المنافس في الانتخابات التشريعية. لكن أيضاً في بعض الدول فإن الانتخابات البلدية هي مقدمة لقياس توجهات الرأي العام، إذ يحصل أن يقاس رأي الجمهور وفق التحولات في أي مستوى انتخابي. 
تذكروا أن انتخابات الجامعات قديماً كانت تعد مقياساً حول توجهات المواطنين في الضفة الغربية و غزة ، خاصة حين لم يكن هناك انتشار كبير للجامعات ولم يكن ثمة طريقة أخرى لقياس رأي الجمهور. 
ما أرمي إليه هنا هو أن ثمة مقاربات مختلفة وفي أغلبها تتعلق بالسياق المكاني وبالزمن، لفهم عملية الانتخابات المحلية. في حالتنا الراهنة وفي ظل تعذر إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية (هل من يراهن) فإن الانتخابات البلدية تظل هي المقياس الوحيد المتوفر لمعرفة توجهات الناس. لابد أن نستذكر، بما أننا تحدثنا عن انتخابات الجامعات، أنها لم تعد بذات أهميتها السابقة، وسبب ذلك ضمن أسباب كثيرة يتعلق بحقيقة عدم إجراء انتخابات للجامعات في قطاع غزة. نعم نحن نجحنا في تحويل التنافس على خدمة المواطن وعلى توفير حياة حرة له إلى تنافس لنفخ العضلات من أجل قياس حجوم كل تنظيم.
ثانياً، هذا التسييس العالي عكس نفسه في طبيعة الشعارات المثارة، خاصة من قبل حركة " حماس " التي بدأت المعركة مبكراً. لكنه عكس نفسه في الإجراءات التي اتخذتها "حماس" لعرقلة نشاطات "فتح"، كان أكثرها بروزاً فض اجتماعات لكوادر فتح يتعلق بالانتخابات. وبغض النظر عن المبرر وراء هذا التصرف وعن المنطق المعبأ بالشعارات والعبارات الكبيرة التي يمكن للناطقين أن يبرروا به هذا التصرف، إلا أنه عنى ضمن أشياء كثيرة أن "فتح" ليست طليقة اليد في إدارة حملتها الانتخابية. وهذا يحتاج توضيحاً من "حماس". 
إن أكثر ما قد يثير الريبة هو مطالبة "حماسط بأن تأخذ "فتح" تصاريح لأي نشاط انتخابي ستقوم به مسبقاً. والأكثر ريبة هو إصرار "حماس" على الفصل بينها وبين الحكومة في غزة كأن من يحكم في غزة هو رامي الحمد الله وليست "حماس". 
عموماً ما أقترحه هو الحذر من أن هذه المواقف لا تساعد على دفع العجلة بل تعمل على تأخير انطلاق الصافرة وتصبح المسافة أكثر بعداً. 
على هذه الانتخابات ما عليها ولها القليل، لكنه القليل الذي يمكن أن يعطي بارقة أمل للمواطنين الذين لم يعودوا يؤمنون بأن للانقسام نهاية محتملة. إن حرية العمل الحزبي والنشاط الجماهيري ضمن وثيقة الشرف وضوابطها وحده يمكن أن يجعل تحقيق هذا القليل ممكناً. 
أما الدبوس الثالث، فيتعلق بطبيعة التنافس الانتخابي. إذ إن ثمة ميل بشع للتشهير والقدح والعودة إلى مربع التخوين والتكفير. في المقابل فإن من يفعل هذا يضع ضوابط وقيوداً على خصمه لأنه يمتلك القوة وحق الاعتقال والمنع. 
راعني ما شاهدت على الـ"فيسبوك" من صور تعرض مشاهد لمواطنين يحملون يافطات مكتوب عليها "هاشتاج" يقول: "كيف صارت" متبوعة ببعض العبارات التي يترفع مقام هذه الصفحة عن ذكرها فيه. لأن من يفعل ذلك لا يريد لهذه الانتخابات أن تستمر. لأنه لو انجر الجميع وراءه فإنها لن تستقر على انتخابات بل ستتحول إلى معول آخر من معاول الاقتتال والاختلاف. 
فبدلاً من أن تكون رافعة أو عتبة نحو ترميم النظام السياسي تصبح مسماراً آخر في نعش الوحدة الوطنية. بل إن بعض هذه الشعارات تمس ثقافة الشعب وليست ثقافة التنظيم المنافس. 
مرة أخرى إن من يفعل ذلك مسبقاً لا يريد للتنظيم الآخر المنافس ولا لكل التنظيمات المنافسة أن يمسوا مواقفه، لأنه يريد أن يضعها في مصاف التابو والمحرمات ولأنه يقرر وحده ما هو الوطني وما هو الحلال. 
ما اقترحه هو أن الأخلاق وحدها التي تنظم الفعل الوطني، وأن التنازل عن هذه الأخلاق لصالح المواقف الحزبية ليس بأكثر من التضحية بالصالح العام، والصالح العام الذي كان ضحية طوال السنوات العشر الماضية آن له أن يتنفس الحرية ولو قليلاً.
رابعاً، لا يقل أهمية عن ذلك هو قضية مشاركة سكان المخيمات في الانتخابات البلدية. لاحظوا كيف أثر الانقسام على القرار الوطني في ذلك، حيث في الضفة الغربية لا يشارك سكان المخيمات في الانتخابات فيما يشارك فيها سكان قطاع غزة. كأن هناك من يقول جهاراً إن الانقسام وجد ليبقى وأن هناك من يمجد الانقسام قُدّس سره. لا أريد أن أحدد موقفاً معيناً في هذا الخصوص، إذ إن لكل موقف معارض أو مؤيد لمشاركة المخيمات في الانتخابات وجهة نظر تحمل صوابها كما تحمل نقيضها. لكن ما أقوله: إنه كان يجب أن يكون هناك موقف وطني موحد من ذلك، موقف يستند إلى فهم وطني حول طبيعة الانتخابات والخروج بصيغ توفيقية تحمي مصالح سكان المخيمات دون أن تمس بحقوقهم السياسية التي تشكل جوهر القضية الوطنية. لكننا استسهلنا الحل حيث تصبح كل جهة حرة فيما تفعل. 
بالطبع فإن الحاجة الوطنية كانت تقتضي – وهنا تتسلل وجهة نظري دون دراية مني أو بدراية مني- ألا يصوت سكان المخيمات في الانتخابات البلدية ويصار تصويتهم مثلاً لتشكيل لجان شعبية تدير المخيمات. لكن حتى هذا يجب أن يحتوي على صيغ ومعادلات ومقاربات تسمح بأن يتمتع سكان البلدية بالخدمات لأنهم يشاركون في دفع الضرائب. لابد أنكم تتذكرون ضريبة الفئران التي ندفعها دون أن نرى يوماً موظفاً في البلدية يقوم بمكافحة الفئران أو نرى جيوش البلدية الجرارة تلاحقها في الشوارع. لكن أيضاً هذا ليس باب القصيد. كان الأجدر بنا أن نصل إلى موقف يجمع بين المخيمات جميعها في غزة والضفة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد