تعيش الأراضي الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية أجواء التحضير لانتخابات الهيئات المحلية، التي تأخرت زُهاء عشرِ سنوات، نتيجة الانقسام السياسي الحاصل بين شقي الوطن.
هذه الأجواء وهذا التعطش للانتخابات لدى كثير من الفلسطينيين يدفع بالساحة وخاصة في قطاع غزة الذي يُعاني من حصار امتد إلى عشر سنوات إلى التحضير لها بشكل دقيق وربما بشكل يشبه المعركة الفاصلة التي ستكون بالضرورة أداة في يد من سيفوز بها ليؤكد شرعيته، وينفي عن الآخر الشرعية (وكله في الصندوق). لقد أثَّر غياب العامل الديمقراطي على المشهد الفلسطيني بشكل كامل، سواء السياسي منه أو الخدماتي، مما أعطى المجال الواسع لاستشراء الفساد والمحسوبية في المؤسسات الرسمية، وهذه نتيجة طبيعية لغياب منظومة الرقابة والمحاسبة.
ربما فاجأت حركة حماس الكل بموافقتها على إجراء انتخابات الهيئات المحلية في قطاع غزة – بحكم سيطرتها الفعلية على الأرض – بعد أن أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس بمرسوم رئاسي عقد انتخابات الهيئات المحلية في مدن الضفة الغربية بعيدًا عن التوافق مع الحركة في غزة، مما وضع الجميع أمام خيارات صعبة من ناحية تجهيز القوائم والإعداد للبرامج الانتخابية وعملية تسويق الانتخابات وترويجها داخليا لرفع نسبة المشاركة فيها، وإقناع الجمهور وفئات اجتماعية متعددة نشأت تحت ظروف قاسية أفقدتها الأمل في التغيير.
ربما تكون لهذه الانتخابات أهمية بالغة ليس على مستوى الأراضي الفلسطينية فحسب، بل على محيطها الإقليمي وخاصة مصر، من حيث أنها ستكون بمثابة استفتاء شعبي على حكم حركة حماس لقطاع غزة والتي تعتبر الامتداد الطبيعي لحركة الإخوان المسلمين في مصر ومدى قبولها جماهيريا، مما سيدفع القائمين على الحكم في مصر لترتيب الأولويات في كيفية التعامل مع قطاع غزة و معبر رفح بالخصوص.
أما على الجانب الإسرائيلي، فقد بدأت إسرائيل باللعب على وتر الفصائلية الفلسطينية، وذلك بدفع ملف إنشاء ميناء لقطاع غزة إلى واجهة الإعلام مرة أخرى، يأتي ذلك كتشجيع واضح على استمرار الانقسام وتعميقه في إطار الاحتفاظ بورقة الانقسام ودفع الأطراف الفلسطينية إلى التنافر الذي يؤدي ربما إلى إلغاء الانتخابات برمتها لِما له من تداعيات خطيرة على الحالة السياسية الفلسطينية، وبهذه الحُجة تضمن إسرائيل عدم الوصول إلى أيِّ حلول للقضية الفلسطينية، وتعفي نفسها من أي لوم قد يحدث بحجة أن قطاع غزة ما زال مخطوفا وغير خاضع لسيطرة السلطة الفلسطينية، فالأطماع الإسرائيلية تتركز الآن على القدس ، ما تبقى من الضفة الغربية، لأنها بشكل أو بآخر تُعد الكيان السياسي الفلسطيني المعترف به دوليا.
أما عن الجانب الدولي، أو الأمريكي على وجه الخصوص، فلم يصدر أي ترحيب أو رفض لإجراء مثل هذه الانتخابات، وربما هناك ترقب خفي لنتيجتها لاستكمال ما يخططون له من مستقبل للسلطة الفلسطينية، ولا ننسى أن انتخابات عام ألفين وستّة، والتي جرت تحت ضغوط أمريكية، أدت إلى فوز حركة حماس بأغلبية برلمانية مكّنتها من تشكيل الحكومة العاشرة برئاسة اسماعيل هنية، حيث كان هذا أول اختبار لاستمزاج الإرادة الشعبية التي أفرزت التيار الإسلامي كأول تجربة عملية في الشرق الأوسط تتسلم الحكم بعد انتخابات ديمقراطية، وبعدها توالت التغيرات في الشرق الأوسط، فربما تكون هذه الانتخابات مفتاح البداية لشيء آخر يلوح في الأفق!
أما عن أهمية الانتخابات فلسطينيا، فيكمن ذلك في أنها تحدث لأول مرة بعد الانقسام الفلسطيني الذي أخرج قطاع غزة عن السيطرة الفعلية للسلطة الفلسطينية عام ألفين وسبعة، وأضحى كجزء يتمتع بنوع من الاستقلالية عن مركز الحُكم في رام الله ، وهذه الأهمية نابعة من عدة عوامل أهمها:
1- إعادة الإعتبار للجسم السياسي الفلسطيني كجسم وحدوي يخضع لسيادة واحدة، وذلك من خلال الاحتكام لصندوق الانتخابات وما يفرز عنه من نتائج يلتزم بها جميع الأطراف، مما يؤهل لاستعادة الوحدة بين قطاع غزة والضفة الغربية كمقدمة للانتخابات التشريعية والرئاسية.
2- فحص مدى شعبية حركة حماس التي تحكم قطاع غزة منذ عشر سنوات خاضت خلالها ثلاث حروب قاسية، وقياس مدى نجاح برنامجها السياسي الذي حاول المزج بين السياسي والمُقاوم.
3- نفي وجهة النظر الإسرائيلية القائلة أن غزة أصبحت تحت سيطرة «الإرهاب» وأنها غير خاضعة للسلطة الفلسطينية، مما سبب حالة من الذريعة «المعقولة» دوليا من أجل الضغط على الرئيس محمود عباس للقبول بالإملاءات والعودة للمفاوضات التي توصف بالعبثية.
4- الكشف عن قوى جديدة تشكلت خارج إطار الفصائل، وتسعى الفصائل الآن إلى ضمها إلى قوائمها الانتخابية لترقيع ما تمزق في ثوبها القديم.
تبقى هذه الانتخابات أهم اختبار حقيقي يواجهه الفلسطينيون وسيحدد شكل نظامهم السياسي بشكل كبير، حيث في حال تمخضت عن نتائج تُرضي طموح القوى والفصائل السياسية بما يضمن لها التمثيل المناسب والمؤثر في المجلس التشريعي، وهذا يُشكل مقدمة إيجابية لإمكانية الذهاب للانتخابات التشريعية والرئاسية يكون قطار إنهاء الانقسام قد غادر محطته الأولى على سكة السلامة.
أما في حال تمخضت عن نتائج لا يرضى عنها طرفا الانقسام في قطاع غزة والضفة الغربية، وهذا ما تذهب إليه استطلاعات الرأي التي تتوقع أن تفوز حركة حماس في الضفة الغربية، وحركة فتح في قطاع غزة مع حيز بسيط للمستقلين وقوى اليسار الوطني الديمقراطي، وهذا سيدفع الجميع إلى إعادة التموضع والتمسك بما يمتلكه من أرض ومميزات وربما امتيازات، وعدم إجراء الانتخابات التشريعية، أي أن هذه الانتخابات رُبما تكون شهادة ميلاد رسمية للانقسام الفلسطيني، أو شهادة وفاة للانقسام، كل هذا مرهون بنتيجتها ومدى وعي القيادات الفلسطينية بخطورة المرحلة التي تمر بها القضية، سواء ما يعانيه قطاع غزة من حالة موت سريري، في ظل انعدام أي أفق قد يفتح بصيص أمل للمحاصرين فيه منذ سنوات طويلة، ولا يلتفت إليهم أحد، اللهم ببعض المساعدات الإنسانية، أو ما تعانيه الضفة الغربية من حالات قتل يومي ومصادرة للأراضي حتى أضحت المدن والقرى الفلسطينية تتآكل أمام الزحف الاستيطاني الإسرائيلي. كل شيء مرهون بالتوافق الفلسطيني الجدي والوطني وتغليب المصلحة العليا، ومدى استيعاب جميع الأطراف للمأزق الذي تعيشه القضية جراء الانقسام الحاصل منذ سنوات طويلة. يبدو جليا الآن أن هذه الانتخابات يجب أن لا تعكس أوزان التنظيمات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة على الأرض وذلك خشية تعطيل الانتخابات التشريعية والرئاسية، لذا تعد القوائم الموحدة بين الحركتين هي طريق النجاة الوحيد. فهل تحدث هذه المعجزة؟

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد