ريحة البر ولا عدمه. يبدو المثل السابق معبراً عن حالة الرضا التي تسود الفعل السياسي بعد التوافق (حتى الآن) على اجراء الانتخابات البلدية في ظل حالة الانغلاق التي يواجهها ملف المصالحة. أي شيء أفضل من لا شيء. أن تجرى انتخابات بلدية أفضل من أن لا تجري اي انتخابات. صحيح ان الأصل أن تجري انتخابات تشريعية ورئاسية تكون تتويجاً لمرحلة ما بعد الإنقسام والدليل الدامغ على أنه بات من مخلفات الماضي، وصحيح أن هذا ليس مستحيلاً، لكنه يبدو في السياق الفلسطيني أبعد المستحيلات تحقيقاً بعد سبع سنوات من ماراثونات عملية المصالحة الوطنية التي لم تنتج شيئاً، على الأقل بالنسبة للمواطن، ولم تنه غريمها الكبير وتضع حداً لحياته: الانقسام.  لكن لسان حال المستوى السياسي والحزبي يقول أي شئ أفضل من لا شيء. ان تدور العجلة خير من أن تتوقف حتى لو لم يخرج ماء من جوف الأرض، خاصة في ظل عدم وجود تفاهمات بخصوص الانتخابات التشريعية والرئاسية. لا يقتصر هذا الحبور على التنظيمين الكبيرين فقط، إذ أن اليسار يبدو أكثر ابتهاجاً وخاصة تنظيمات مرحلة السلطة والانتخابات التي ستجد لها فرصة حتى تنافس في شيء حتى لو باب دخول السبق حيث أن كثير من هذه التنظيمات إن لم يكن جلها سيكون خارج حلبة المنافسة الرئاسية وربما التشريعية، فيما يظل الصراع على المجالس البلدية أكثر جدوى. ولكن ريحة البر خير من عدمه.
وفي كل الأحوال، فإن من يريد أن يكبر كوم الانتخابات القادمة يمكن له أن يعتبرها الحجر الأول في صرح تحقيق الوحدة الوطنية، ولابد أن البلاغة الزائدة في العبارة السابقة تشير إلى أن الامر لا يتعدى كونه جعجعة بلا طحن. ولكن وحتى نمسك بانفسنا متلبسين بالتفاؤل فإن علينا أن نصدق أننا حين نعجز عن اجراء انتخابات شاملة لكل الوطن (او المتاح منه) رئاسية وتشريعية فإننا يمكن لنا أن نجريها في كل منطقة على حدة. من باب «اللي بجيش معاك تعال معاه» او من باب ما لا يدرك كله لا يترك بعضه. ولكن هذا قد يكون صحيحاً، وهنا علينا أن ننزع رداء التفاؤل وننظر للأمر بواقعية وبصدمة، في حال كان اجراء الانتخابات البلدية جزءاً من حل شامل تدريجي. فالأصل مثلاً أن تجرى الانتخابات العامة حيث يشارك الجميع في تقرير مصير الجميع وحيث يعاد للمجتمع قدرٌ من الوحدة. الخطورة أن اقتصار الأمر على الانتخابات البلدية يعني وقوعنا في التصور العام للأزمة الخطأ. بمعنى اننا بتنا نعالج الأزمة الخطأ. فمشكلة الشعب الفلسطيني ليست وجود بلديات ومجالس قروية بقدر ما هي دولة ونظام سياسي. الجانب الآخر من سوء الفهم هذا ان الانتخابات لا يمكن لها أن تكون حلاً لانقسام سياسي، الحل للإنقسام هي القرار الذاتي بإنهائه، هو توحيد الؤسسات وعودة اللحمة وإزالة كل مظاهر الإنقسام في المؤسسة التشريعية والتنفيذية والقضائية. ونتيجة لذلك تكون الانتخابات تتويجا لانتهائه وفي نفس الوقت علامة دامغة على أنه لم يعد موجوداً. ولكن رغم ذلك تظل ريحة البر ولا عدمه.
ومع هذا، فإن الكل ينظر للانتخابات بوصفها حلبة سباق سياسي وتنافس انتخابي يعكس حجوم التنظيمات وخاصة التنظيمين الكبيرين، وهي فرصة بعد عقد كامل من الإنقسام أن يتم التعرف على مدى تبدل مواقف الجمهور، خاصة مع عدم جدية استطلاعات الرأي الممولة في أغلبها وعدم دقة نتائجها في عكس التحولات في مواقف الجمهور، وفي ظل تفاخر كل طرف بأنه يحوز على أغلبية أصوات المواطنين. وعليه فإن المثير فيما سيجري هو ان ثمة امتحان حقيقي يمكن من خلاله تلمس حجوم التنظيمات وقوة التنظيمين الكبيرين الحقيقة. رغم أنني وكدارس للعلوم السياسية أدرك بأن توجهات الناخبين في الانتخابات البلدية تختلف بشكل كبير عن توجهاتهم في الانتخابات العامة، إذ أن هناك ثمة سطوة أعلى للعشيرة والقبلية بجانب طبيعة التنافس الذي تستند الكثير من دوافع الناخبين في تحديد مواقفهم منه على الأجندات المحلية والمطالب البلدية، وهذا يكون أكثر دقة في البلديات الصغرى والقرى. لكن رغم ذلك فإن انتخابات المدن الكبرى خاصة مدن غزة و نابلس والخليل تعكس توجهات الناخبين السياسية وأن مساحة الاختيار على قاعدة مطالب بلدية ستكون ضيقة. ولكن أيضاً ريحة البر ولا عدمه.
ويرتبط بذلك أن جملة من الأسئلة لم تجد لها حلا وستظل مرهونة بوتيرة الإنقسام. لنأخذ حالة قطاع غزة. سيكون التنافس الحقيقي على بلدية غزة بوصفها أكبر بلدية في الضفة وغزة. ولكن تخيلوا لو أن فتح فازت فيها فماذا سيكون الحال؟ أولاً ثمة سيناريو كابوسي ينتظر مرشحي فتح لو فازوا فهم سيكونوا مسؤولين (دون سلطة) عن كل أزمات قطاع غزة، وسيبرع خصوم فتح في توجيه دفة النقد الشعبي والسخط الجماهيري على المجلس الفتحاوي. ولكن الأسوأ من ذلك أنه لن يكون بمقدوره أن يواصل مهامه في فرض الجباية حيث أن الشرطة لا تعمل تحت إمرته ولا يربطها فيها شكلياً إلا مجلس الوزاء الذي هو ليس صاحب ولاية حقيقية على الأمن في غزة. طبعاً وبمخيلة منطقية يمكن تصور مئات السيناريوهات الكابوسية التي ستعكس أننا نقوم بتغطية طاولة الطعام بعد عراك بقطعة شفافة من القماش، كأن كل شيء قد انتهى.  ثمة أسئلة أخرى كثيرة لابد من التفكير فيها. ولكن لنعود لفاتحة هذا المقال ريحة البر ولا عدمه. 
أسوأ نتيجة لهذه الانتخابات قد تكون أنها قد تطيل عمر الإنقسام إن لم تقض عليه. أخشي أن يصبح الإنقسام بذلك جزءاً لا غنى عنه من النظام السياسي وهو لا يدجن فقط بل يصبح مكوناً لا يمكن التنازل عنه، بل وعلينا أن نفكر كيف يمكن له أن يظل موجوداً حتى حين تزول كل مسبباته وظواهره. ولكن ريحة البر ولا عدمه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد