ليست السعادة الحقيقية في امتلاك القصر المشيد، والسيارة الفارهة والزوجة الجميلة والمال الوفير، والأولاد؛ لأنه ربما يكون الأولاد والزوجة نقمة وليس نعمة إن لم يكونوا من الصالحين، وربما تكون السيارة الفارهة قبرك لو تعرضت لحادث سير لا سمح الله، أو للإصابة بعاهات واعاقة مستدامة بسبب السيارة؛ وأما عن الفيلا أو القصر المشيد فربما يكون وبالاً عليكم وليس نعمة، إن كان بجوارك جار سوء، أو تعرضت الفيلا للسرقة، وكانت سببًا في موتك علي يد السارق؛؛؛.

إن السعاد الحقيقة هي في مرضات الله عز وجل وفي طاعتهِ وعبادتهِ كما أمرنا بعمارة الأرض واصلاحها وفق منهج الله عز وجل؛ والله عز وجل أكرم المسلمين بكرامات ونفحات روحانية لتطهرهم من الدنس والذنوب والسيئات؛ فمن قواعد النفس البشرية لأن الرحمة تنشأ بعد الألم , وهذا بعض السر في عظمة الصوم, وذلك بمنع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة من الوقت , وهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس, فمتى تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وإن المهمة التي ينبغي أن ينشغل بها كل مسلم في رمضان, هي الفوز برضوان الله وبالجنة وعتق رقبته من النار, وهذا جد الأمر كله , فمن انشغل بغير ذلك , لا يكون إلا غافل، ولن تتوفر لديه السعادة الحقيقية.

إن رمضان نظام حياة , يطبب به الله علل الجسد , ويعالج به آفات البشر النفسية والاجتماعية , ويمد به الروح بقوة تجعل لها الغلبة على المادة, إنه زمن تغتسل فيه الدنيا بالرحمات وتتطيب, وتتهيأ بالبركات والنفحات والخيرات للصائمين السعُداء؛ فللصائم فرحتان كما أخبر النبي صل الله عليه وسلم: "فرحه حين فطره وفرحه عند لقاء ربه" أو كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام وهنا السعادة تتضح بفرحة لقاء الله للصائم وهو راضي عنا؛ وكأن الزمن ينادي في الناس قائلا " هذه أيام رمضان المبارك هي أيام الله؛ تمضي من أنفسكم لا من أيامي, ومن طبيعتكم لا من طبيعتي افهموا الحياة على وجهها الآخر غير وجهها الكالح, كأنها أجيعت من طعامها اليومي كما جعتم  وأفرغت من خسائرها وشهواتها كما فرغتم, وألزمت معاني التقوى كما ألزمتكم  الصوم للسعادة بعلكم تتقون, فما أجمل وأزكي وأعظم من شهر مضان هو شهر النفحات، فيه التراويح ريحٌ وريحان وزيارة الأرحام؛ والصدقات والقيام والود والتسامح والصفح، وفيه نسمات الخير والسعادة؛ قال ابن رجب: وما في هذه المواسم الفاضلة موسمٌ إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات؛ وهو شهر القرآن: " شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدي للناس وبيناتٍ من الهدي والقرآن" و به ترفع الدرجات من أدي فيه نافلة كمن أدي فريضة فيما سواه، تضاعف فيه الأجور والحسنات.

يقول الله عز وجل في الحديث القدس ي:" كل عمل أبن أدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". لأنه لا أحد غير الله عز وجل يعلم من الصائم من غير الصائم فلا نفاق فيه ولا أحد يغصبك علي الصوم لذلك أجر الصائم عظيم جدًا عند الله عز وجل؛  وقد روى الطبراني عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده"؛ فالنفحة الأولى التوبة؛ يقول العلماء: التخلية قبل التحلية .. لا بد من التوبة لأنها بمثابة تنقية الإناء من الأوساخ قبل وضع الشراب فيه .. قبل أن نتعرض لنفحات الرحمن ، لا بد أن ننقي قلوبنا من الأدران، ومتى يتوب، من لم يتب في رمضان؟ ورغم أنف رجل أدرك رمضان فلم يغفر له .. لماذا؟ رمضان فرصة للمذنبين .. فالشياطين مصفدة وشهوات النفس مقيدة .. والنفحات ممنوحة .. وأبواب الجنة مفتوحة؛ وفي رمضان معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته: وهذا الامر هو روح التوحيد والإيمان ، أن تعرف الله بأسمائه وصفاته لا معرفة نظرية فقط ، بل معرفة قلب خاشع محب معظم لربه جل وعلا، فتستشعر عظمة الله ورقابته وتستحي من الملائكة الذين سخرهم الله لحفظك؛ وتستحيي من الملكين الذين لا يفارقانك ، يسجلان طاعاتك ومعاصيك؛ معرفة محبة ورجاء : فإذا كنت تحب الله فلا تعصه ، فإن المحب لمن يحب مطيع، ومعرفة تعظيم وخوف ؛ ومن القصص الرائعة عن التوبة عن العبد العاصي قصة الصحابي أبو اليسر؛ حيث كان أبو اليسر يبيع التمر في المدينة، فجاءته امرأة حسناء جميلة تشتري منه التمر ، وكان زوجها قد خرج غازياً في سبيل الله ، فوسوس له الشيطان وزين له الوقوع بالمرأة ، فقال لها: إِنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْرًا أَطْيَبَ مِنْهُ . فدخلت معه في البيت ، فأخذ يقبلها ، ويباشرها دون أن يصل إلى الجماع .نعم لقد وقع هذا الصحابي في هذه المعصية في موطن من مواطن الضعف ، فما الذي حدث؟ ضاقت به الدنيا ، وعظم به الأمر ، فذهب أولاً إلى أَبي بَكْرٍ ، وأخبره بما وقع له ، فقال أبو بكر: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ وَلَا تُخْبِرْ أَحَدًا ، لكن أبا اليسر لم يصبر ، فذهب إلى عمر ، فقال له عمر: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ وَلَا تُخْبِرْ أَحَدًا ، لكنه لم يصبر حتى أتى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَر ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ: أَخَلَفْتَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي أَهْلِهِ بِمِثْلِ هَذَا؟ .في هذه اللحظة ، تقطع قلب أبي اليسر ، حَتَّى إنه تَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةَ ، بل إنه ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . ثم أَطْرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَوِيلًا ، وأنزل رأسه إلى صدره ، حَتَّى أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ (وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، ذلك ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)، قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على أبي اليسر ، ففرح بها فرحاً شديداً، ثم قَالَ بعض الصحابة: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً قَالَ بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً .

السعادة في رمضان من خلال أن تجاهد نفسك ورمضان فرصة للمجاهدة والتغيير، واستشعار العوض : وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله ونهى نفسه عن هواها (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)، وتدبر القرآن والعمل به : فإن القرآن روح القلوب ، وهو شفاؤها من جميع الشهوات والشبهات؛ والسعادة في رمضان من خلال  استحضار نعم الله تعالى، وكم لله علينا من نعمة ، (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) من أمن في الأوطان ، وصحة في الأبدان ، وأنس بالأهل والولدان ، وأطعمة متعددة ، وأشربة متنوعة؛ وفي رمضان تزكية وتحلية وتخلية من الرذائل؛ وفي رمضان تذكر الآخرة وتذكر الموت والقبر وما بعده من أهوال الآخرة؛ والسعادة في رمضان بالدعاء والانكسار بين يدي الله .. ولو كنت باقٍ على المعصية ، ولو عظمت منك الذنوب؛ فقد ثبت عند الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي ، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ، يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) أبشر أيها الصائم بالسعادة لأن لك رباً رحيمًا عظيمًا يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات بل ومن كرم الله عز وجل أن يبدل السيئات حسنات للتائبين والصائمين المتقين السعداء.

ومن السعادة في نفحات الله في الصيام أنه سبحانه اختصه لنفسه ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قال: ((قال الله عزّ وجلّ: كلُّ عمَلِ ابنِ آدم له إلاَّ الصّوم، فإنه لي وأنا أجزِي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يسخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَله فليقُل: إني امرُؤ صائم. والذي نفس محمّد بيده، لخلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله يومَ القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرِح بفطره، وإذا لقيَ ربَّه فرح بصومه) فبالصوم تتحصل اللذة فيه من الصلة بالله والتلذذ بخدمته، ولذلك كان يبس الشفاة من العطش، وقرقرة البطون من الجوع: أهنأ ما لاقاه الصائمون؛؛؛ والسعادة في صوم رمضان قراءة وتلاوة وتدبر القرآن الكريم، قال النووي: وأما الذي يختم القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير رضي الله ختمة في كل ركعة في الكعبة، وقال الذهبي: قد روي من وجوه متعددة أن أبا بكر بن عياش مكث نحواً من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، ولما حضرته الوفاة بكت أخته فقال: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة. وكان الحافظ ابن عساكر يختم كل جمعة ويختم في رمضان كل يوم، نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنك الصيام وصالح الأعمال ويكتبنا من السعداء ومن أهل الجنان.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد