لم تكن تلك المرة الأولى التي يجد ياسر عرفات نفسه في حياته ومماته هدفاً لخصومه وأعدائه أو المتطاولين على قامته العالية علو جبل الجرمق، والسامقة نحو السماء مثل روحه الخالدة، وحتى أن بعض هؤلاء يحترفون السب والشتائم هواية لا تنتقص منها المناسبة ولا الحاجة الوطنية ولا حتى المصلحة الحزبية.

إنهم يتمادون في طغيانهم ويعمهون، وكأنهم يصرون على حرف بوصلة النقاش الوطني. 
ودأب عرفات في حياته وفي مماته كدأب المتنبي حين يقول: أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا  وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ
ولكن المحزن في كل مرة، هو أن مثل هذه التشنيعات والتفوهات غير الوطنية تمر دون وقفة وطنية جدية، ليس فقط من فتح التي اكتفت بالتنديد دون أن تطلب من " حماس " موقفاً رسمياً ودون أن تقول: إن مثل هؤلاء لن تقبل فتح يوماً أن تجلس معهم ضمن وفود "حماس"، ولكن أيضاً من فصائل العمل الوطني ولجنة الفصائل. 
بشكل عام فإن حالة الخطاب الفصائلي والوطني ولغة الحوار والتعبير عن المواقف في الحركة الوطنية بحاجة إلى بعض الضوابط ومعايير السلوك التي يعكس غيابها والحاجة لها ترهل الحالة الوطنية وانحدارها إلى قاع سحيق.
كأن هؤلاء يستكثرون على الشعب الفلسطيني أن يكون له زعيم ووجدان جمعي يتجسد في شخص، وكأنهم لا يعرفون أن كل الوطنيات في التاريخ كانت بحاجة لمثل هذا الزعيم والوجدان الجمعي، وأن هويتهم كانت ستظل ناقصة لو لم يوجد، كما أن "الأبلى" من هذا هو حالة التطاول على النضال الوطني وعلى معركة بحجم معركة الكرامة كأنهم يستكثرون على الشعب المنكوب المنكوس المشتت أن يوجد انتصار حقيقي في معاركه العسكرية، ويسجل أنه هو وليست الجيوش العربية من هزم إسرائيل حتى لو في معركة صغيرة. 
إنهم لا يتورعون عن تحريف الواقع حتى لو وصل بهم الأمر إلى المساس بهويتهم، وهم يتبجحون بنكرانها حتى أنه يعز عليهم تقبل الأمر مجازاً، وكان المجاز المراد نفيه أكثر سوءاً من الواقع الذي لا يتم حتى الاعتراف به. إنهم معلقون من رقابهم في متاهات الذات الباحثة عن ذاتها خارجها. وبالتالي من السهل وفق هذه العقلية القحطاء والأرض اليباب المستفحلة في أرواحهم أن يمسوا رموز هويتهم وينفوا انتصارات شعوبهم.
لم يكن ياسر عرفات شخصاً عابراً في التاريخ الوطني الفلسطيني، ولم يكن مجرد قائد لتنظيم ما، ولا هو سياسي تختلف وتتفق معه، وليس رئيساً طمع في الرئاسة وسعى خلفها، ولا مسؤولاً اشتهى السلطة والحكم، ولم يسفك نقطة دم من أجلها، بل حين امتشق السلاح لم يكن له غاية إلا الشهادة أو أن ينال شعبه حريته. لم يكن الرجل الذي أفنى عمره في ساحات الوغى ومعارك النضال وتعرض للموت ألف مرة، مجرد قائد يعطي تعليمات وأوامر. كان دائماً في أول الصفوف والأكثر استبسالاً في القتال، لم ينتظر مكافأة من أحد ولم يعرف طريقاً لا تقود إلى فلسطين، كل العواصم تمر عبر فلسطين وفلسطين لا تمر عبر أي عاصمة. وهو الذي أطلق شعار القرار الوطني المستقل دون أن يعفى الشعب العربي وحكامه من مسؤوليتهم القومية ولا أحرار العالم ومناصري قضيتنا من واجبهم الأخلاقي. 
كان ياسر عرفات زعيماً استثنائياً في زمن استثنائي، وكان الأقدر على دفع العجلة للأمام. كان سيد الحالمين، وكان حلمه هو التجسيد الأمثل للحلم الفلسطيني الكبير. 
كان أبرع من يصوغ العبارة الوطنية ببساطة وشعبية، وأخلص من يعبر عن الوجدان الوطني بصدق ونزاهة، وأبلغ من يقول ما في نفوسنا دون تكلف، وأمهر من يطلق طائرات أحلامنا تحلق في سماء الكون لا تربكها كل الرادارات، والأسرع في التعبير عن الغضب الفلسطيني، وكانت عباراته وحركاته، وأنقى صورة وأبهى مخيلة وأجمل كلمة يمكن أن تقال عن فلسطين كان عرفات مرجعيتها. 
لم يكن للحلم الفلسطيني أن يستقيم دون العرفاتية التي هي الجوهر الحقيقي الخالص للروح الوطنية الفلسطينية. ليس السؤال هل يمكن تخيل التاريخ الوطني الحديث دون ياسر عرفات لأن هذا تحصيل حاصل، ولكن السؤال يظل في سر هذا الوجود العرفاتي الذي أعطى للوطنية الفلسطينية روحها. إن تفكيك العرفاتية يقود إلى نتيجة واحدة متلازمة مع جوهر الشيء الكامن في الروح الفلسطيني بحيث يصبح كل فلسطيني، حتى تلك الأبواق التي تتطاول عليه، عرفاتياً في الأساس، به البعض من عرفات، وإن حاولوا الزعم بغير ذلك؛ لأن الفلسطينية والوطنية المعبرة عنها تأخذ أشكالاً عرفاتية مختلفة، أساسها الاشتباك بمختلف الأشكال مع العدو، ومن زعم غير ذلك فلا بد أن ثمة شيء لا علاقة له بفلسطين في كل نقاشه. حتى حين كان يفاوض، كان عرفات ينظر للأمر على أنه أحد وسائل الاشتباك مع العدو، لأن الاشتباك والصراع هو أساس العلاقة. وحتى حين عاد إلى أرض الوطن وقام بقيادة السلطة الوطنية وتشكيل الأجهزة التي أساء بعض مسؤوليها قيادتها، فإنه ظل ينظر للأمر بوصفه معركة أخرى مع المعارك ضد المشروع الإحلالي الكولونيالي. وحين استوجب الأمر كان أول من انتفض على أوسلو ورعى الانتفاضة وقادها ولم يتراجع قيد أنملة حتى حين عرف أن رأسه هو المطلوب في كل ذلك. كان عرفات ولم يزل أكبر من كل الترهات وخزعبلات المتفوهين. 
لا بد أن يشعر من يسيء له بالخجل لأنه يسيء لتاريخ شعب ونضال حركة تحرر وطني. والمحزن أن الاختلاف عند البعض يصل إلى التطاول والنفي. وربما ذنب عرفات أنه كان يقاتل ويحمل السلاح حين كان منتقدوه لا يؤمنون بالقتال والجهاد والكفاح، بل باللقاء مع رابين وبيريس. وربما كان ذنبه أنه كان فلسطينياً بامتياز فيما منتقدوه لديهم أجندات خارج فلسطين. 
لكن يظل لعرفات أنه حتى بين صفوف "حماس" هناك من يحبه وينصفه. لا بد من التذكير بكتاب الصديق الدكتور أحمد يوسف حول ياسر عرفات وبمقدمة خالد مشعل عن الزعيم الخالد التي، أي تلك المقدمة، تليق بشعبنا وقيادته وليست تلك التصريحات الغوغائية. كما أن بيان حركة حماس لم يكن موفقاً إذ بدلاً من الاعتذار عما حدث والقول إن هذا الشخص لا يمثل إلا نفسه، انجر وراء نقاش سفسطائي لا حاجة له واصفاً محبي أبي عمار بالمتباكين، وهذا لا يليق، رغم أن بيان كتلة حماس البرلمانية كان أكثر لطفاً وحكمة من بيان الحركة. 
عموماً من الواضح أن ثمة من يريد أن يعكر الأجواء غداة الدعوة المصرية لتجديد الحوار الوطني، وثمة من يريد أن يستخف بعقول الناس عبر نقاشات جانبية دون أن يشعر أن السفينة تغرق، أو كأنه لا يهتم كثيراً لذلك. ويجب تفويت الفرصة عليه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد