البعد الإنساني للقضية الفلسطينية الذي ركز عليه العمل النضالي الفلسطيني أكسب القضية الكثير من الأنصار والمؤازرين والمتضامنين الذين وصل الحد ببعضهم إلى القتال إلى جانب قوات الثورة الفلسطينية والتطوع في معاركها أو التطوع لخدمتها في المجالات كافة. 
إنه البعد الذي يشكل التهديد الحقيقي للعنصرية التي صبغت الصهيونية وبالتالي شكل النقيض الأساس للمشروع الكولونيالي الاستحواذي الإحلالي الذي يمثله عبر التركيز على عالمية النضال ضد المشروع الصهيوني بوصفه تهديداً للعدالة ووجهاً من وجوه الاستعمار. 
عبر التركيز على هذا البعد نجحت القضية الفلسطينية في أوقات كثيرة في أن تكون قضية النضال الإنساني للكثير من أحرار العالم الباحثين عن الاشتباك مع الظلم من أجل القضايا العادلة. 
ولما كان البشر نزاعين دائماً للتكاتف والوقوف إلى جانب القضايا التي يعتقدون بأخلاقيتها، ولما كانت القضية الفلسطينية واحدة من اكثر القضايا أخلاقية في القرن العشرين فإنها نجحت في أن تشكل يقظة ضمير بالنسبة للكثيرين من الأحرار والمناضلين الأمميين. كما أن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية شهد تمظهراً للمشاعر المناقضة للحروب خاصة في المجتمع الغربي الذي دفع فاتورة حربين كونيتين كلفتاه أكثر من ستين مليون قتيل. هذه المشاعر التي نجحت في التأسيس للتشكيلات الإقليمية التي تسعى لاحتواء أي مشاريع قومية عدائية على صعيد الدول والسياسات الرسمية تم ترجمتها باتساع موجات التضامن الدولي وحملات مناصرة حركات التحرر وتفكيك الاستعمار خاصة في أوساط مثقفي ونخب الدول الاستعمارية الكبرى. 
ولم يقتصر الأمر على التضامن والخروج في مسيرات، بل في بعض الأحيان كان على بعض الحكومات أن تدفع ثمن مواقفها في صناديق الاقتراع. 
ما يقترحه التحليل السريع السابق هو أن التضامن الأممي والنضال الإنساني شكل ظاهرة مهمة في الفترة الواقعة بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يكن مجرد ردات فعل عابرة على مشاهد القتل والتدمير التي تقوم بها القوى الاستعمارية التي كان عليها مع انتهاء ستينيات القرن الماضي أن تنهى استعمارها للبلدان التي نهبت خيراتها لعقود وربما لقرون. وهي ظاهرة مرتبطة أكثر بالتطور الطبيعي للسياق الغربي وأزماته الداخلية ونتائج الحروب المدمرة التي جلبها للعالم.
بيد أن التمظهر الأكثر تمركزاً لمفهوم التضامن الدولي مع القضايا المختلفة أخذ شكله الحقيقي بعد ظهور ما يعرف بمنظمات المجتمع المدني الدولي وتوثيق العلاقة والتشبيك بين منظمات المجتمع المدني المحلية العاملة في البلدان المختلفة. 
لقد شكل المجتمع المدني دائماً المساحة الفاعلة في الحراك المجتمعي غير الواقع تحت هيمنة الدولة وأجهزتها، وبالتالي وفر فرصة ليعبر الأفراد عن تطلعاتهم ومواقفهم والنضال من أجل قضايا محلية تستقطب اهتمامهم بعيداً عن توجهات المؤسسة الرسمية. لكن في العقود الأربعة الأخيرة بدأت تتشكل منظمات مجتمع مدني عابرة للدولة الوطنية، تعنى بقضايا وأزمات أبعد من حدود الدول التي يأتي منها أفرادها. إنها قضايا ذات بعد أممي وإنساني لكنها تمس الكثير من حياة الناس وهي قد تتراوح بين المناخ والبيئة وحماية الغابات إلى حماية بعض أنواع من الطيور والحيوانات من الانقراض، إلى حقوق الأقليات العرقية والدفاع عن غياب الحريات في بعض البلدان. وكانت بذلك ترجمة حقيقة لظاهرة العولمة وما رافقها من الانفجار المعلوماتي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي وقبلها ثورة الإعلام المرئي، وما صاحبها أيضاً من انتشار مفهوم الفاعلين السياسيين خارج إطار قوة الدولة الوطنية من جماعات الضغط الدولية، إلى المنظمات الإقليمية، إلى الشركات العابرة للدولة الوطنية. حتى أن احتكار الاستخدام المشروع للعنف بكلمات ماكس فيبر الشهيرة لم يعد مقتصراً على الدولة؛ إذ ظهرت قوى كثيرة قادرة على ذلك. 
بعبارة سريعة فإن ما حازت عليه القضية الوطنية الفلسطينية من دعم دولي جاء ضمن النسق العالمي لتطور مفهوم التضامن الدولي وانتشار المجتمع المدني الدولي الفاعل وتسارع وتيرة العولمة. 
وربما يجب أن يضاف إلى كل ذلك النشاط الفاعل للثورة الفلسطينية وللطلاب الفلسطينيين في الجامعات الأوروبية في الستينيات والسبعينيات والثمانينات. 
لقد شكلت دبلوماسية المواجهة بعبارة خالد الحسن في ذلك الوقت فهماً متقدماً في توضيح زيف المشروع الكولونيالي الصهيوني الذي يتم تقديمه في الدعاية الصهيونية بوصفه مشروعاً اشتراكياً تقدمياً معاصراً وأن إسرائيل النتاج الطبيعي لتطور الحضارة الغربية. دبلوماسية المواجهة خاصة بين أوساط الطلبة نجحت في تأمين الكثير من الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية في الغرب. 
لماذا الحديث في هذا الآن؟! ببساطة لأن ثمة انزياحات واضحة في الاهتمام بالقضية الفلسطينية، ما يشكل خطراً على البعد الإنساني لهذه القضية. بالقياس فإن فهم الكثير من مواطني العالم للقضية الفلسطينية بات أكثر عمقاً، كما أن التضامن مع الشعب الفلسطيني لم يخفت بشكل وضح لكنه ليس في تزايد. لكن من الواضح أن البعد الإقليمي والدولي للقضية الفلسطينية الذي شكل تراجعاً في السنوات الأخيرة بسبب التحولات التي طرأت على الإقليم، ما نتج عنها تحولات في اهتمامات القوى الكبرى والمجتمعات الغربية، والتي ناقشناها سابقاً في مقالات سابقة، هي نفسها انتجت تحولات في قوة التضامن الدولية مع فلسطين. 
أحد أهم الملاحظات التي لمستها خلال زيارتي لعدة مدن ألمانية ضمن فعاليات أدبية مختلفة هو أن مجموعات التضامن لا تجذب الكثير من الجيل الشاب الذي لديه الكثير من القضايا الأخرى التي تهمه. 
ربما الأمر مختلف في بعض المجتمعات خاصة النرويج حيث ثمة اهتمام في أوساط الشباب المتضامنين، لكن ما أقصده وهو خلاصة جملة كبيرة من الحوارات مع الكثير من المتضامنين هو أن ثمة حاجة لإعادة الاعتبار لاستقطاب اهتمام الشباب وتفعيل دور الجاليات المتناحرة للأسف، واتحاد طلبة فلسطين (هل ما زال موجوداً؟) والسفارات والدبلوماسية العامة، من أجل الحفاظ على الإرث الكبير الذي نجح الفلسطينيون في مراكمته من التضامن الشعبي الخارجي. وربما كما قال لي أحد المتضامنين في مدنية ميونخ بألم: «نحن نشعر بالخجل من انقسامكم. إنه يعطل عملنا». هل من يسمع؟!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد