أكره الذكرى الكئيبة لأنها ترغمني على البوح بضعفي الإنساني وحاجتي لوطن سرق في غفلة من الزمن. أكره الذكرى لأنها تعيدني لحزن جدي ورحلة التيه الطويل وحجارة الوادي ونهر الدمع الذي تحجر في المقل. أكره الذكرى لأن الجرح الذي ان فتح ذات يوم ما زال صارخاً من شدة الملح المسكوب توقاً لكل شيء ولأن راوي حكاية الوجع الطويل ما زال يسرد فصول الرواية دون توقف بحنين طفولي لما كان ذات يوم قبل أن تتوقف عقارب التاريخ على لحظة الحزن الدائم.
تلك هي الرواية والحكاية ومفتاح الدار والأقدام التي أدميت وهي تهرب تاركة عشاءها الأخير مغمساً بدم ورثة المسيح الذين ما زالوا معلقين على صليب المنافي ومسامير الموت التي تعبت الفضائيات وهي تعيد بث مشاهد الموت الذي يتنقل بخفة بين غزة والضفة و القدس دون توقف، وكأن على حبر الحكاية أن يتلون بالدم على امتداد فصولها الطويلة منذ ما يقارب سبعة عقود وهي طويلة في عرف الشعوب وخصوصاً حين تكون مثقلة بالألم والحنين والخوف والتشتت من منفى إلى منفى دون أن تستريح بين هجرتين أو وقت مستقطع بين موتين أو حربين ...إنها القصة الأكثر إيلاماً في التاريخ.
كان جدي المؤقت في كل شيء إلا الإيمان بالعودة يتكئ على الأمل الذي انبعث من تمردنا العفوي ذات يوم وتحول إلى ثورة، يبحث عنها بين موجات مذياعه وموجات البحر التي تلاطم مدننا التي تنام على الشواطئ تهدهد نومها إلى حين عودة أهلها الراحلين من البعيد والمحترقين بلهيب الغربة وجمر الانتظار الموروث من جيل إلى جيل جديد لم يكف عن الحلم وعن النشيد.
لم يعد غسان إلى حيفا ولم ينم درويش تحت الخروبة التي كتب عليها اسم طفولته ذات زمن ولم يقبّل عرفات تراب القدس ولم نتقدم نحو الحلم. هذا هو انكسار عقرب ساعة الفرح المنتظر وعقرب الروح لأننا هكذا بعد سبعة عقود فهل كان هناك ما هو خارج عن ذاتنا وعن السيطرة؟  سيطرتنا على الدرب الطويل أم أن ذاتنا تاهت وسط الطريق، هل تورطنا قبل الأوان لنصنع ضعفنا ونستدعي كل أنواع صراعاتنا وأسباب تآكلنا؟ ربما.
أم كان هناك ما هو خارج عن إرادتنا وكان على أكفنا الطرية أن تلاطش كل مخارز الأرض التي وقفت متفرجة على مأساتنا وفي كل المدن التي أقسمت أن ترتوي من دمنا دون شبع. 
فقد سقينا كل ورود العواصم لكن أزهارنا لم تتفتح بعد وما زلنا نساق للذبح المباشر بالصوت والصورة على الأرض التي كتبت لنا، بألم لم يكتب على الذين من قبلنا. 
كم كانت مزحة التاريخ معنا ثقيلة وطويلة! وكأنه لا بد من هذا الطريق لنواصل سرد الحكاية بلا أفق ولا شفق إلا من صراع بين الإخوة الألداء. فأي نكبة جديدة صنعناها بأيدينا وكأن ما فينا لم يعد يكفينا؟!
علينا أن نقدم اعتذاراً مدوياً لجيل كان يجب أن نقدم له الوطن على طبق من الورود فتقدم له الوطن مكللاً بعار الانقسام لنحمل جيلاً قادماً نكبة أخرى لن يفلت منها وإن تمكن سيخرج متأثراً بجراحه. 
ما الذي حدث؟ وكيف لقافلة أن تكمل مسيرتها ولوطن أن يتحرر وقد انشغل أبناؤه بسن سيوفهم ضد أنفسهم، معلنين هزائم استنسخت ذاتها بلا توقف؟
كان تمرداً عفوياً نقياً لشعب تشتت في المهاجر ليتحول إلى تمرد علينا وعلى ذاتنا التي أصابت بالعطب إنسانيتنا المقهورة بعدوان الانقسام والصراع مع الذات. كيف اقتتلنا في أوج الصعود لنسقط عرايا بلا لون وطعم ورائحة نستدعي أوراق توتنا بالشعار الرهيب؟ فلم يعد في القلب متسع للحزن على ما تساقط من لحمنا البشري حين انتصرنا على بعضنا البعض ولم ننتصر، حين انبهرنا بالطقوس ووهج الجاه ولم ننبهر، حين تركنا كل شيء ورضينا بالإياب.
يا لخجلنا أمام واقع يصدمنا يومياً مما فعلناه بأنفسنا ولم نفعل من أجل الوطن. قبل سنوات كان أيار يعني الذكرى ومسيرات العودة والسلاسل البشرية، والآن أصبح أيار الحصار والمعبر والشموع والدموع والمصالحة وحكومة بلا حكم وفصائل متناحرة ووصلات الشتائم والتخوين والعجز الفاضح والكذب الواضح ملهاة الحكم ونموذج الأداء الذي وجه طعنة سيف لإرادتنا وهي رأسمالنا الوحيد لاستكمال الصعود نحو الشمس، فابتعدنا عن الحلم أكثر. فأي ذنب ارتكبناه بحق أنفسنا؟ أي ضمير سيحاسبنا حين تأتي لحظة الحساب؟
ذكرى النكبة هي مرثية الوطن البعيد والتي نعيد بكاءها السنوي الذي يحمل معه حزناً يكبر كل عام بسببنا فنغرق في الحزن أكثر. النكبة هي تلك الذكرى التي تقطع القلب فلولاها لكنا هناك ولكان لنا هواؤنا وماؤنا ونبع غديرنا ومطارنا وسفرنا وعودتنا وصوت مضيفة تقطع نومنا قائلة: «هنا فلسطين». لولاها لكنا نتسكع في شوارع يافا ونجري كالأطفال على شاطئ حيفا ونأخذ عائلاتنا في نزهة في جبال الكرمل ونضع أقدامنا على ضفاف طبريا، فالذكرى تعني كل الكآبة وموت الكتابة على الورق لأنها أعجز من أن تصف أرواحنا المعلقة مع قطرة ندى على ورقة شجرة التوت التي زرعها جدي أمام الدار وأوصاني بها إن عدنا دونه.
أريد وطناً لأسافر بكرامة فقد تعبنا من الجوار وتعب الجوار منا ومن مرورنا وعبورنا الثقيل. أريد وطني كإنسان آن له أن يستريح وأن يتصالح مع التاريخ الذي يصر على منازلتنا، ظل شاهراً سيفه في وجوهنا وحدنا وقدم لحمنا قرباناً للأسطورة والخرافة وانعدام الضمير وفجر كل حقول الألغام المنصوبة في وجوهنا. اقتلعنا وعلق سيرتنا على الأشجار. من حقنا أن يكون لنا وطن ولكن عندما أنظر في مرآتنا المهشمة أرى جزءاً من مأساتنا، نكبتنا الجديدة التي تضاعف مرارة النكبة الأولى. 

Atallah.akram@hotmail.com

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد