من الواضح أن أزمة الكهرباء في غزة باتت أصعب من تحقيق المصالحة وأكثر تعقيداً من كل الأزمات المرتبطة بالإنقسام، بل تتجاوز صعوبتها المقدرة على تخيل الحل المناسب للخطر الحقيقي الذي بات يهدد حياة الناس مع تفاقم حدة الأزمة. أسهل شيء في مثل هذه الأزمات البحث عن الأعذار وتقديم التبريرات، فيما تكمن الصعوبة في الاعتراف بحقيقة الأزمة والإقرار بالمسؤولية عنها. ويبدو أن ثقافتنا السياسية لا يوجد في متونها ولا على هوامشها فكرة الاعتراف بالخطأ وتحمل المسؤولية عن هذا الخطأ. إن فكرة "العناد" تبدو أصيلة في وعينا التكويني كما في ممارستنا اليومية. من المدهش كيف استمرت أزمة مثل أزمة الكهرباء لقرابة عشرة سنوات دون أن تتوقف عن ضرب حياة الناس في مقتل، دون أن تقرع ناقوس الخطر وترفع الكرت الأحمر في وجه المسؤولين عنها.وحتى دون أن يقول أحد لنحاسب المسؤول عن ذلك او لنتفق على خطة إنقاذ وطني تحمي الناس من المزيد من المخاطر.
ما حدث مع عائلة الهندي حيث احترق ثلاثة أطفال بسبب انقطاع التيار الكهربائي حدث قبل ذلك في حالات كثيرة، فمنذ سنوات لم تتوقف حالات الحرق بسبب تداعيات انقطاع الكهرباء حيث يلجأ الناس لاستخدام طرق بسيطة لانارة ما يمكن انارته، مثل الشمع ومصابيح الكيروسين وغيرها. النتيجة الأساسية في ذلك أن حياة الناس تصبح عرضة للمخاطر. عشرات حالات الاحتراق تمت خلال السنوات العشرة الماضية خاصة في فصل الشتاء، ولكن يبدو أن الإصرار على كون ازمة الكهرباء مثل الكثير من أزمات الحياة اليومية هي جزء من الإنقسام جعل النظر إلى القضية الكبرى أهم من النظر إلى التفصيل الحقيقي الذي يعرض حياة الناس للخطر.
وهذا بدوره يقود لنقطة غاية في الأهمية تتعلق بمقارباتنا لموضوع الإنقسام وسبل حله. من المؤكد ان سنوات الحوار الوطني التي بدأت بعيد انتهاء العدوان على غزة في مطالع العام 2009 بلغت الآن أكثر من سبعة، وكل جولات الحوار كانت تركز على الهدف الأسمى المتعلق بتحقيق المصالحة وتجسيد الوحدة الوطنية. ولم ينتج شيء رغم تشكيل حكومة الوفاق الوطني التي قلت مثل كثيرين أنها صورية ولن يتم تمكينها في غزة، لأن أساس ما يعرف باتفاق الشاطيء كان خاطئاً. ليس هذا بيت القصيد هنا. تم تجاهل محاولة تحسين حياة الناس خلال البحث عن الهدف الأسمى. وربما لو تم التعلم من اتفاق أسلو (بكل مساوئه) كان يمكن تطوير حياة الناس خلال محاولة تحقيق الهدف الكبير. ليس بالضرورة أن يظل الناس يعيشون حياة غير إنسانية لأننا نعجز عن تحقيق غايتنا. كان يمكن السير في مسارين متوازيين يتم خلال أحدهما حل بعض المشكلات التي يعمق استمرارها الإنقسام وفي نفس الوقت هي نتيجة أساسية له، وبالتالي نجد أنفسنا بعد فترة وبعد أن ننجح في حل بعض هذه الأزمة أمام أنقسام أقل.
تخيلوا أن جيلاً كاملاً في غزة ولد وترعرع وبات يذهب للمدارس وبعضه عما قليل سيكون في المرحلة الإعدادية وهو لا يعرف كيف يشعر الإنسان حين يكون لديه كهرباء يوماً كاملاً بلا انقطاع. بل إن هذا الجيل سيكون من المدهش له لو سافر للخارج ورأي أن ثمة حياة أخرى يتمتع فيها الناس بكهرباء طوال اليوم وطوال الأسبوع وطوال الشهر وطوال العمر. وكما يمكن تخيل الوضع وفق هذا، فإن هذا الجيل نجازف بحماقاتنا المتواصلة عبر إدامة عمر الإنقسام بقتل الحلم داخله، وإلى منعه من التفكير في الغد، والبحث عن الضوء المفقود في قلب العتمة التي يعيشها. جيل وقع ضحية العند السياسي الذي لم يعد له ما يصوغه ولا حتى المصالح الحزبية الضيقة.
وتخيلوا التأثيرات الأخرى لانقطاع الكهرباء على مناحي الحياة المختلفة. فبعيداً عن أن انقطاع الكهرباء يمس تفاصيل الحياة اليومية والاجتماعية والاقتصادية فإنه أيضا يضرب عميقاً العملية التعليمية في القطاع. فالطلبة لا يستطيعون أن يحضروا دروسهم في أول الليل حيث الكهرباء زائر عزيز قد تأتي وقد لا تأتي، وعليه فإنهم يخسرون فرصة الاستعداد للدروس والذهاب بعقول ناضجة وعارفة لفصولهم الدراسية. وربما سيكون الأمر أصعب على تلاميذ المدارس الذين يذهبون للمقاعد الدراسية مبكراً مع شقشقة العصافير حيث لا يستطيعون أن يسهروا إلى وقت متأخر منتظرين أن تحن عليهم شركة الكهرباء بساعة أو اثنتين ليحضروا دروسهم. ناهيك عن تفاقم التأثيرات حين يتعلق الأمر بالتحصيل المعرفي والقراءة والبحث، إلى جانب التكاليف الاقتصادية المرهقة لتشغيل المولدات في المؤسسات التعليمية والمدارس. وربما الأهم من كل ذلك هو تأثير انقطاع الكهرباء خلال امتحانات الثانوية العامة حيث على الطلاب أن يعشيوا تحت الضغط الاجتماعي المرهق الذي يجعل من النجاح في التوجيهي عقدة نفسية للكثيرين. ومع غياب الكهرباء فإنهم مطالبون بان يضاعفوا جهودهم من أجل أن يحققوا العلامات المرجوة. ما أقصده هنا أن القصة تتجاوز كونها قصة كهرباء بكل ما تحمله من شوائب الانقسام، وتمس حياة الناس ومستقبلهم وأحلامهم ومقدرتهم على البحث عن مستقبل أفضل. إنه مستقبل لا يمكن تلمسه في غابة العتمة التي يعيشون فيها.
لا بد من تشكيل لجنة وطنية عليا للإشراف على قضية الكهرباء تكون مهمتها إيجاد الحلول وليس خلق التبررات واختلاق الاعذار. ليست مسؤولية المسؤول أن يشكو، مسؤوليته أن يقدم الحلول. هذه اللجنة يجب أن تكون صاحبة صلاحيات تنفيذية وتعمل بعيداً عن الأجندة الحزبية، ولا تخضع لمسؤولية أحد في غزة، وتمنح كل ما يمكن أن يسهل عملها وتتظافر كل الجهود من أجل أن يتم حل مشكلة الكهرباء حتى نحافظ على القليل من الأمل الممكن، على الأقل للأجيال القادمة. لأن التكيف مع الظلام لا يمكن له أن يساهم في إيقاد شمعة الأمل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية