قبل عدة أشهر من الآن بدا التيّار المدني في العراق في حراكه آنذاك التيار الوحيد الذي تمرّد على الواقع الطائفي الذي كرّسه وشرعنه الاحتلال الأميركي للعراق.
أدى الاحتلال العسكري عند درجة محددة إلى هيمنة القوى الطائفية الموالية بصورة مباشرة لإيران، بل والداعمة للهيمنة الإيرانية على المعادلة السياسية في العراق.
وعلى الرغم من كل محاولات التفاهم بين إيران والولايات المتحدة على التقاسم الوظيفي بينهما، وعلى الرغم من «الحروب» القائمة بينهما استطاعت الولايات المتحدة في نهاية المطاف التوصّل إلى الاتفاق النووي، واستطاعت أن تعيد إيران إلى السكّة التي ستوصلها إلى المحطة الغربية في نهاية المرحلة.
في ذلك الوقت اعتبر الكثيرون من المراقبين أن صفقة النووي لن «تقتصر» على جداول المراقبة، وعلى «فنّيات» التخصيب، وعلى مراحل إنهاء المقاطعة، وإنما ستشمل إضافةً إلى كل ذلك على «الترتيبات الإقليمية»، بما في ذلك «الحصة» الإيرانية في منطقة الإقليم، وشرعنة الدور الإقليمي لإيران، وإيجاد معادلة داخلية في العراق من شأنها الإبقاء على حالة «التوازن» التي تساعد وتدعم الاتفاق النووي. أما بعض المحلّلين والمراقبين (ومن بينهم كاتب هذه المقالة) فقد اعتقدوا العكس تماماً.
فدولة مثل إيران تهيمن بالكامل على العراق وتتحكم بأوراق كبيرة في المعادلة السورية، ولديها القدرة على تعطيل الحل في لبنان وتلعب دوراً خاصاً في معادلة الصراع في اليمن، وتحاول الإمساك ببعض أوراق المعادلة الفلسطينية لا يمكن أن توافق على «مجرّد» طرح هذه الأوراق وطرح كل هذه الأدوات للمساومة في اطار الاتفاق النووي، وانها (أي إيران) صاحبة مصلحة كبيرة، باستبعاد هذه المساومة من حوارات «النووي» ومن المفاوضات حوله من باب أولى.
أما السبب الآخر فإن الولايات المتحدة ليست معنية بصورة آلية ومباشرة بتجريد إيران من هذه الأوراق والأدوات، لأن من شأن ذلك أن يطيح بالاتفاق من جهة، وأن يؤدي إلى حروب كبيرة في معظم هذه البلدان، وإلى خلط كل أوراق الإقليم، إضافةً إلى أن الولايات المتحدة تريد أن يكون هناك بعض التوازنات بين إيران من جهة وبين تركيا والخليج من جهة أخرى دون المساس بالدور وبالأمن الإسرائيلي بطبيعة الحال.
المهم أن المعادلة الطائفية في العراق بقيت على حالها، ورغم أن «العبادي» حاول تجاوزها في بعض المظاهر إلاّ أن جوهر هذه المعادلة القائم على المحاصصة لم يتغير في الواقع، وهو الشيء الذي أدّى وأفضى إلى وصول البلاد إلى حدود الإفلاس، وإلى انتشار الفساد على نطاق واسع، وإلى استمرار الحالة الأمنية السيئة، وإلى بقاء داعش عنصراً مؤثراً في المعادلة الداخلية.
فهم التيار المدني مبكراً أن المعادلة الطائفية في العراق هي جزء من التفاهم الأميركي الإيراني، وخرج إلى الشارع بشعارات مطلبية كان الهدف الأبعد لها هو إسقاط هذه المعادلة بالذات، في تقدير من هذا التيار باستحالة الإصلاح في ظل هيمنة هذه المعادلة.
لم يتمكّن هذا التيار ـ وهو تيار وطني شريف ـ من اختراق المعادلة على الرغم من أن الحشد الذي جمعه آنذاك كان مفاجأةً كبيرة، وكان هذا الحشد بمثابة مؤشر كبير على أن المعادلة الطائفية في العراق بدأت باستنفاد كل طاقتها وأنها شارفت على الاضمحلال.
التيار الصدري قرأ جيداً المعادلة الجديدة وخرج باستنتاجاتٍ هي هامة بكل تأكيد.
هذه القراءة يمكن اختصارها بالتالي:
• الأزمة العراقية لم تعد تحتمل استمرار المحاصصة الطائفية لأنها (أي المحاصصة) السبب الرئيسي لها، وهو الأمر الذي يعني استحالة الإصلاح في ظلها.
• تجاوز الأزمة ممكن فقط عن طريق حكومة تكنوقراط حتى لا تصل الأمور إلى انفجارات شعبية قد تطيح بالقوى التقليدية للطائفية الشيعية. وفي حالة رفض هذه القوى للحكومة الجديدة لا يوجد أمام الشارع العراقي لملء الفراغ سوى القوى الصدرية، وإلاّ فإن التيار المدني سيتحول بسرعة قياسية إلى القوى الأولى في البلاد، وقد ينتشر الأمر إلى مناطق جديدة وصولاً إلى المناطق السنّية بل والكردية مباشرة.
إذن في الواقع هناك محاولة من قبل الصدريين لقطع الطريق على التحولات الديمقراطية الحقيقية، وهناك محاولة من قبل القوى الطائفية الشيعية لقطع الطريق على الصدريين.
ولهذا فإن الصراع يبدو اليوم وكأنه صراع شيعي - شيعي، مع أنه في الجوهر صراع لا يهدف إلاّ لقطع الطريق على التيارات الوطنية المدنية في العراق.
الدليل القاطع على حُسن قراءة الصدريين للمعادلة الداخلية في العراق هو الشعارات التي طُرحت في هذا الحراك. [العراق حُرَّة حُرَّة وإيران بَرَّه بَرَّه].
أدرك الصدر أن الشارع العراقي ضاق ذرعاً بالتحكم الإيراني بالمعادلة العراقية، كما أدرك أن القوى الطائفية المساندة لإيران حُرقت كل أوراقها السياسية، وثبت أنها تستخدم البعد الطائفي لتكريس مصالحها الخاصة على حساب الغالبية الساحقة من الشيعة الفقراء والذين هم عربٌ أقحاح ومعروفون بقبائلهم الأساسية والفرعية بالانتماء للعروبة ولوطنهم العراقي وقادوا وتصدروا معارك الوطن العراقي والأمة العربية على حدٍّ سواء.
باختصار انكشف حال اللعبة الطائفية وانكشف عجزها وافتضحت أهدافها وأصبحت عارية تماماً.
الصدر أدرك أن هذا الحراك بدون الإعلان عن معارضة هيمنة إيران على العراق لن ينجح، ولذلك فقد تحمّل مسؤولية الشجاعة للتعبير عن الواقع الجديد.
التيار المدني ـ كما أعتقد ـ موجودٌ في مركز الحراك ولكنه يتوارى خلف العباءة الصدرية.
قد يكون هذا مبرراً إلى حين، أما الصدر فإنه مهمش في القرار السياسي للعراق من قبل أقطاب الطائفة الشيعية مع أن وجوده الشعبي كبير ومؤثر، ولهذا فإنه على استعداد كامل ـ على ما يبدو ـ أن يتحالف ويقود التيار المدني في هذه المعركة وفي المعارك القادمة، وهو مؤهل لأن يطيح بتلك الأقطاب إذا لم يحققوا له أهدافه المباشرة.
المؤشرات التي يحملها الحراك الشعبي في العراق هامة للغاية باعتبارها نواة أولية لهزيمة الفكر الطائفي والقوى الطائفية.
أما إذا امتد الحراك الشعبي إلى مناطق جديدة من العراق ـ وهذا ممكن ووارد ـ فإن هذا الحراك سيكون بمثابة تدشين لمرحلة جديدة في كل المنطقة للإجهاز على هذا الغول الطائفي الذي عمل وأدّى إلى استعار هذه الحروب الخرقاء، وإلى هذا الدمار المجاني الذي يسود في بلدانٍ مركزية كانت دائماً في قلب المشهد المشرقي من الإقليم العربي.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية