بات واضحاً أن الهدف المباشر للمبادرة الفرنسية هو "استعادة" آلية تكون "جديدة"، يمكنها أن تعيد إطلاق عملية سياسية من شأنها أن تضع "حداً" للصراع الإسرائيلي الفلسطيني يكفي لإعادة إحياء مشروع حلّ الدولتين، قبل أن يتم القضاء النهائي والمبرم على هذا المشروع مرة وإلى الأبد.
أما لماذا فرنسا أولاً ثم أوروبا ثانياً فهذه مسألة باتت واضحة أيضاً.
أوروبا هي التي تكتوي بنار الانفلات القائم في كل منطقة الإقليم، وأوروبا هي التي تدفع أو بدأت تدفع فاتورة الإرهاب وفاتورة اللاجئين، وهي المرشحة قبل غيرها أن تدفع تبعات أخرى لهذا الانفلات قد تصل إلى تهديد مشروعها للوحدة، ناهيكم عن التهديد المباشر لاستقرار الكثير من دولها.
ومن الطبيعي أن تتزعم فرنسا مثل هذه الجهود في ظل اندراج منافسها الرئيسي وهي ألمانيا في التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة، وفي ظل حاجة فرنسا "للاستقواء" بقدر ما هو متاح بالإقليم العربي ومنطقة العالم الإسلامي لتعزيز مكانتها الأوروبية والدولية على حد سواء.
أغلب الظن أن صيغة المؤتمر الدولي دائم الانعقاد من خلال لجنة دعم المفاوضات والمشاركة المباشرة فيها من قبل عدة أطراف دولية وأوروبية وعربية ستكون الاطار المنظم والمشرف والمراقب على هذه المفاوضات.
إذا ما تم التوافق على أساس واضح للحل بحيث تكون الدولة المستقلة على الحدود التقريبية للرابع من حزيران (ذلك أن تعديلات معينة ستفرض نفسها في الواقع) وبحيث تكون القدس الشرقية عاصمة لهذه الدولة فإن صيغة المؤتمر الدولي ستكون "قادرة" على وضع أسس متوافق عليها للحل البعيد الأمد لقضية اللاجئين والحلول المباشرة لبعض القضايا مثل الأسرى والحلول المتوسطة مثل المياه.
أما عقبة الاستيطان وترسيم الحدود ستظل الأصعب على الإطلاق.
لكن قبل كل هذا وذاك فإن أمام الوصول إلى كل ذلك عقبات كأداء وصعوبات وعراقيل ما أنزل الله بها من سلطان.
بالنسبة للعقبات الكأداء فإن التحالف اليميني المتطرف في إسرائيل والذي تحول إلى يمين قومي ديني "كهاناتي" النزعة والسلوك هو عنوان كل العقبات، وقبل سقوط أو إسقاط هذا التحالف فإن مجرد الحديث عن آمال بنجاح هذه الجهود هو مجرد هراء سياسي.
وحتى لو تم سقوط أو إسقاط هذا التحالف العنصري فإن قدرته على تعطيل الوصول إلى أي حل من أي نوع كان هي كبيرة بكل المقاييس. وبسبب نمط وطبيعة "الوعي السياسي" في إسرائيل فإن أيديولوجية هذا اليمين هي ثقافة سائدة فيها، وهو الأمر الذي يتيح لهذا اليمين ابتزاز أي حكومة وسط فيها والانقضاض على "الحلول المقترحة" في أية لحظة سياسية "مناسبة".
أما العقبة الأخرى فإن "فوز" أي حكومة يمين ليبرالي أو وسط أو حكومة "اتحاد وطني" من أي نوع كان لا يعني الموافقة على حل متوازن طالما وصلت الأمور في إسرائيل إلى ذوبان كل الفوارق ما بين التيارات، حتى وصلنا اليوم إلى مزاودات "يسارية" على اليمين الحاكم من مواقع يمينية متطرفة كما فعل ويفعل هيرتسوغ في هذه الأيام. ولكن مع ذلك فإن مجرد عقد المؤتمر الدولي هو أمر هام وإيجابي بحد ذاته حتى ولو استمر تحالف الاستيطان والتوسع في سدة الحكم في إسرائيل.
إن الاشتباك مع المجتمع الدولي هو ربح صاف للقضية الفلسطينية، وخسارة مباشرة وصافية لإسرائيل.
فعودة القضية الفلسطينية إلى جدول الأعمال الدولي بعد غياب وتغييب طويل بفعل وفي ضوء ما آلت إليه حالة الفوضى السائدة في الإقليم العربي هي مكسب كبير، خصوصاً وأن إسرائيل قد بذلت قصارى جهدها في السنوات الأخيرة لتهميش موقع القضية الفلسطينية في خارطة الإقليم، وبعد أن عملت بكل الوسائل لإبعاد "شبح" الاهتمام الدولي بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وبدء الاعتراف الدولي بهذه الحقوق.
وبعودة القضية إلى جدول الأعمال الدولي تكون إسرائيل قد خسرت معركة خلط الأوراق التي لعبت عليها مرة عبر الحديث عن "الغول" الإيراني ومرة عبر "الإرهاب الإسلامي".
كما أن عقد المؤتمر الدولي بالصيغة المقترحة هو مكسب سياسي كبير للقضية الفلسطينية بعد أن كانت إسرائيل "تستثمر" في التفرد الأميركي لفرض شروطها وهيمنتها على المفاوضات التي فشلت وأفشلت لأسباب كثيرة ومنها هذا التفرد بالذات. استطاعت إسرائيل استناداً إلى هذا التفرد التوغل في سياسة الاستيطان والتهام الأرض الفلسطينية وتمكنت من سرقة الجزء الأكبر من ثرواتها الوطنية تمهيداً لمنع الاستقلال الوطني، وتكريس السيطرة الكاملة على مقدرات الشعب الفلسطيني وتحويل حقوقه الوطنية إلى مجرد احتياجات اقتصادية واجتماعية.
وبكل هذه المعاني فإن إعادة إقحام المجتمع الدولي بكل مكوناته الإقليمية والدولية وبكل مؤسساته الأممية في الاشتباك والانخراط في الحل السياسي للصراع هو انتصار كبير للشعب الفلسطيني وهو هزيمة سياسية ماحقة للتحالف الحاكم في إسرائيل.
موقف الإدارة الأميركية من المبادرة الفرنسية وكذلك الصيغة المقترحة للمؤتمر الدولي هام ومفصلي للغاية.
الموقف المتوقع من الإدارة الحالية هو عدم الممانعة على الرغم من الحاجة الماسة للسيدة هيلاري كلينتون لأموال الدعم اليهودي ولحاجة الحزب الديمقراطي لهذا الدعم الذي لا يعكس الموقف الأميركي على حقيقته في هذه الأيام بالضرورة.
وبالمقارنة بين حظوظ الحزب الديمقراطي وحظوظ الحزب الجمهوري فإن الكفة ترجح لصالح الحزب الديمقراطي حتى الآن لأسباب لا مجال للخوض فيها في هذه المقالة، لكن المؤكد أن الحزب الجمهوري فقد جزءاً من الدعم الذي كان يفترض أن يحظى به بسبب "ترامب" وأقواله وسلوكه وافكاره.
لكن الأمر الأهم هنا هو أن المرشح اليهودي اليساري "ساندرز" قد حصل على أصوات هائلة في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي وهو الأمر الذي يعني أن هذا المرشح الشجاع قد جرّ الحزب الديمقراطي إلى اليسار (كما يقول د. سمير عوض) وهو ما سيعكس نفسه على مواقف الإدارة الأميركية اليوم ولاحقاً.
في هذا الإطار فإن من الملفت للغاية عودة الحديث الأميركي عن بذل جهود خاصة واستثنائية لحل هذا الصراع قبل نهاية فترة الرئيس أوباما، كما أن من الملفت للانتباه بصورة خاصة ما صرح به كل من نائب الرئيس بايدن ووزير الخارجية كيري حول الاستيطان وحول المواقف الإسرائيلية من عملية السلام.
قد تكون الإدارة الأميركية بصدد عملية التفافية على المؤتمر الدولي ولكن تغيرا ما حدث في الحزب الديمقراطي بسبب شجاعة المرشح ساندرز.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد