لا شك أن انتشار خيار الجهاد الإسلامي، واتساع قدرته على اختراق «خطوط العدو» وتنفيذ عمليات موجعة في قلب مدن ومؤسسات عربية وإسلامية ودولية، ومواصلة عمله على الرغم من الاحتياطات الأمنية، وتعدد جبهات المواجهة ضده، من بلدان وجنسيات وأجهزة وجيوش مختلفة، انما يعكس نفوذه وتنوع قواعده، وتوفر الحواضن الشعبية له والتي تمده بالطاقة البشرية، وتغذي احتياجاته من تعدد العناصر القادرة على اتخاذ زمام المبادرة، والتضحية، والتفاني في سبيل الأهداف التي ترى تنظيمات الجهاد برأسيها القاعدة وداعش، شرعية تحقيقها والعمل من أجلها. 
وثمة تسليم لدى العديد من المفكرين والكتاب وأصحاب الرأي، أن نتائج الحرب الباردة في نهاية الثمانينات، وحصيلتها هزيمة الشيوعية والاشتراكية والاتحاد السوفييتي وانعكاساته على ضعف أحزاب التيار اليساري العربي وتراجعه، وإخفاق أحزاب التيار القومي وأنظمته في العالم العربي، وغياب الأحزاب الليبرالية، أدى الى حالة الفراغ السياسي الحزبي الفكري التعددي نظراً لتراجع وضعف الأحزاب اليسارية والقومية والليبرالية انعكاساً لنتائج الحرب الباردة، ما وفر لأحزاب التيار الإسلامي الثلاثة الإخوان المسلمين، وولاية الفقيه، وتنظيم القاعدة الذي انشق عنه تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، وجميعها كانت حليفة للمعسكر الأميركي وللنظام العربي المحافظ طوال مرحلة الحرب الباردة، ووفر لها غطاء التمدد ونيل القوة وملء الفراغ . 
كما أن فشل غالبية بلدان النظام العربي في توفير الاحتياجات الضرورية للإنسان العربي وللمواطن من عدالة ومساواة وتكافؤ الفرص في العلاج والسكن والتعليم والعمل، إضافة الى تهميش دور المثقفين، وقوى المعارضة، ورفض التعددية الدينية والطائفية والقومية وعدم قبول الآخر، وتسلط اللون الواحد والطائفة والحزب والقائد والعائلة الواحدة، وغياب خيار الديمقراطية والانتخابات والتعددية، والتفرد في إدارة السلطة والمؤسسات والدولة، كانت حصيلته بروز خيار العمل الجهادي، الذي انتصر في أفغانستان وهزم السوفييت، وأدى الى ترسيخه وانتشاره باعتباره الوسيلة المثلى لهزيمة العدو وتركيع الخصم، مترافقاً مع انتصار الثورة الإسلامية في ايران عام 1979.
فقادة النظام العربي الرسمي المحافظ، وأحزاب التيار الإسلامي العابرة للحدود، تحالفوا مع بعضهم البعض طوال فترة الحرب الباردة ومعاركها ومحطاتها ضد الاتجاهات اليسارية والقومية والليبرالية، ونهلا معاً خبرة وتجربة وسلوك السياسة الأحادية والتسلط والتفرد وعاشاها معاً، وكلاهما استعمل الآخر ضد الخصم المشترك، وكلاهما وظف حليفه ضد خصمه، ولم يعتمدا على أسس العمل الجبهوي، ولم يؤمنا بالتعددية، ولذلك منذ أن افترقا بعد إنجاز تحالفهم في هزيمة عدوهما المشترك الشيوعية والاشتراكية والاتحاد السوفيتي وأصدقائهم وامتدادهم في العالم العربي عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد ومنظمة التحرير الفلسطينية، والعمل على إضعافهم، فعملوا على فك الصيغ الوظيفية، وأنهوا الاستعمالات المتبادلة، وناصبوا العداء لبعضهما البعض، لأن كل طرف منهما الأنظمة المحافظة وأحزاب التيار الإسلامي يرى نفسه الأحق بالولاية والسلطة وإدارة الدولة، فاصطدما ضد بعضهما البعض، بأشد الوسائل والأدوات دموية، وفتكاً وتطرفاً ووجعاً. 
النظام العربي لا يقبل القسمة، ولا الشراكة، ولا التعددية، وهو أسير مفاهيم وسلوك اللون الواحد، والحزب، والقائد الملهم، وقد أصبحت هذه المفاهيم والممارسات حصيلة الثقافة المشتركة والتجربة المتبادلة، والمرجعية الواحدة وترسخت كتقاليد موروثة لأحزاب التيار الإسلامي الذي لا يقبل القسمة أيضاً، ولا الشراكة، ولا التعددية، ليس فقط في مواجهة التيارات المنافسة اليسارية والقومية والليبرالية، بل لا يقبل الشراكة والقسمة مع أحزاب التيار الإسلامي نفسه، فتجربة حماس الإخوانية في قطاع غزة منذ عام 2007 مثلاً كانت أشد قسوة في تعاملها مع حلفائها من الإسلاميين، مع ممتاز دُغمش وموسى عبد اللطيف، وضد التنظيمات الجهادية الثلاثة : 1-جيش الإسلام في حي الصبرة، وضد 2- جند أنصار الله في مجزرة مسجد ابن تيمية، وضد 3-  جماعة التوحيد والجهاد، والصراع المحتدم على أرض سورية والعراق إنما يدور بين ثلاثة اتجاهات رئيسية تنتمي الى التيار الإسلامي وعناوين خلافاتها هي حركة الإخوان المسلمين من طرف، وبين ولاية الفقيه من طرف آخر، ومن كليهما في مواجهة تنظيمي داعش والقاعدة من طرف ثالث. 
في سورية يخوض الإسلام السياسي الموصوف بالاعتدال بقيادة الإخوان المسلمين، وبدعم من تفاهم تركي خليجي، في مواجهة ولاية الفقيه الإيرانية وامتدادها السوري واللبناني والعراقي، ومن فروع الإخوان المسلمين ضد فروع ولاية الفقيه في أكثر من بلد، اليمن وليبيا مثلاً، ومن كليهما في مواجهة داعش والقاعدة، وهكذا نرى مشهد الصراع في سورية واليمن وليبيا والعراق يشكل نموذجاً فاقعاً للصراع بين أجنحة التيار الإسلامي الثلاثة : 1- الإخوان المسلمين، 2- ولاية الفقيه، 3- داعش والقاعدة. 
h.faraneh@yahoo.com
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد