يواصل الفرنسيون الضغط باتجاه طرح مبادرتهم التي سيمر عام ربما على أول محاولات طرحها وتبلورها. ومن غير المؤكد أن الجهود الفرنسية يمكن لها أن تنجح في فرض مبادرة تحوز رضى الأطراف خاصة إسرائيل، التي تجد فرنسا نفسها مرة بعد أخرى تحاول إعادة تكييف مبادرتها من اجل أن تقبل بها، ولن تفعل.

 ومن غير المؤكد أيضاً أن تظل المبادرة الفرنسية مبادرة فرنسية بعد فترة من الزمن من كثرة التحفظات والاستدراكات والملاحظات التي يجب أن تأخذها باريس بعين الاعتبار من اجل أن تنال المبادرة موافقة الحلفاء على ضفتي الأطلسي في أوروبا والولايات المتحدة، ومن ثم تومئ إسرائيل بالموافقة ولو همساً، وأيضاً هذا لن يحدث، وحتى لو حدث فإنه لن يكون أكثر من محاولة وجهداً آخر سيضيعا سدى في ماكنة الرفض والمماطلة الإسرائيلية.

فحتى أسوأ المبادرات التي أجحفت بحق الشعب الفلسطيني مثل خارطة الطريقة التي قبل بها الفلسطينيون على مضض وقبلت بها إسرائيل ووضعت قائمة من الاشتراطات والاستدراكات تحولت مع الزمن إلى ورقة من أوراق الماضي.

 لن تختلف الحال بالنسبة لأية مبادرة أخرى حيث ستجعل إسرائيل من ملاحظاتها مبادرة أخرى تنسف كل جهود لتفعيل المبادرة الحقيقية، فإسرائيل لا تؤمن بأية حال من الخارج، ولا حتى من واشنطن، وهي تعتقد أن أي حل لا ينتج عن مفاوضات ثنائية مع الفلسطينيين حل غير مقبول؛ لأنها عبر المفاوضات الثنائية يمكن لها أن تطيل عمر عملية السلام لربع قرن آخر من الزمن دون أن يتحقق السلام.

 كما أن تل أبيب تدرك أن المجتمع الدولي لا يملك الحزم ولا الجرأة اللازمتين لإجبارها على الالتزام بما تتعهد به، وهذا على افتراض أنها قبلت بعقد مؤتمر دولي أو الجلوس لطاولة مفاوضات متعددة المرجعيات والأطراف والضمانات.

فهي متيقنة أن القوى الكبرى في العالم لا تهدد حتى بمعاقبة إسرائيل إن هي لم تلتزم، فتاريخ إسرائيل في رفض قرارات الأمم المتحدة التي لا تحقق كل مطامعها (فهي تقبل بالأجزاء منها التي تحقق تطلعاتها) مليء بالشواهد التي وقف العالم كله عاجزاً حتى على التلويح بالتهديد. المبادرة الفرنسية مثال حي في ذلك، ففرنسا كانت قد هددت في السابق بأنه في حال رفضت إسرائيل مبادرتها فإنها ستذهب للاعتراف بالدولة الفلسطينية. أولاً لنلاحظ مستوى التهديد: الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وليس مثلاً سحب الاعتراف بإسرائيل أو مقاطعة إسرائيل أو تقديم مشروع مقترح بفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل كدولة محتلة، بل التهديد بأننا سنعترف بالحق الطبيعي للفلسطينيين بأن يكون لهم دولة، تذكروا أن هذه الدولة على أقل من عشرين بالمائة من أرض الآباء والأجداد حتى. وأيضاً إسرائيل تدرك بأن باريس لن تفعل ذلك على قلته.

 وربما الشهور الستة الماضية من المماطلة الإسرائيلية والتهديد الإسرائيلي للمبادرة ورفضها ووضع الملاحظات، والتوتر بين باريس وتل أبيب كل ذلك يثبت صدق وجهة نظر إسرائيل تجاه المجتمع الدولي وعجزه. عموماً هذه حال السياسة الدولية حيث ينشط الأوروبيون حين يتراجع الحضور الأميركي لسبب أو لآخر.

من الواضح أن الإدارة الأمريكية التي تنتظر تسليم مفاتيح البيت الأبيض للرئيس القادم لن تقدم على التحرك بشكل مكثف في الشرق الأوسط وفي عملية السلام تحديداً.

 فأوباما ليس كلينتون الذي ظل يحاول إلى آخر يوم له في البيت الأبيض، كما أن حدة المنافسة على كرسي الرئاسة في واشنطن حادة كما كل مرة لكنها تأتي في سياقات مختلفة بالنسبة للناخب الأميركي. عموماً وحتى على افتراض أن الانسحاب الأميركي من مشاكل العالم مؤقتاً، حيث سرعان ما ستعود واشنطن لخلق الأزمات والتدخل حيث ترى مصالحها ومصالح حلفائها، فإن كل هذا يعطي متسعاً وحيزاً للأوروبيين للتدخل. فالأوروبيون يتدخلون لملء الفراغ الذي يتركه الأميركيون، وعادة ما يكون ذلك بتنسيق وتوافق.

 لكن لننتبه إلى أن السياسة الخارجية الفرنسية تنزع دائماً منذ ديغول إلى طرح نفسها بديلاً ومنافساً للحضور الأمريكي، خاصة في المناطق التي تعتبر مناطق نفوذ سابقة للاستعمار الفرنسي.

 وحتى في الشرق الأوسط حيث واصلت فرنسا علاقاتها مع مستعمراتها السابقة في بلاد الشام والمغرب العربي، فإن مواقف فرنسا من القضية الفلسطينية شهدت تحولاً مهماً بعد ديغول، صحيح أنه تحول بطيء لكنه تراكمي.

 عموماً فإن المبادرة الفرنسية التي تأتي في سياق محاولات إنقاذ عملية السلام الميتة هي أيضاً جزء من الحراك والتنافس الدوليين.

 وربما التأخر في ظهورها بشكل نهائي مرده، بجانب التعنت الإسرائيلي، إلى تراجع الدعم الأوروبي لها تحديداً من برلين ولندن.

كانت باريس تظن أن القوتين الكبريين في الاتحاد ستعملان على دعم مبادرتها بوصفها مبادرة أوروبية، وهو ظن كان في بدايته صحيحاً، إلى أن تراجع الألمان والبريطانيين عن دعم المبادرة خاصة بعد رفض إسرائيل لها، وظهور التراجع الأميركي عن الصمت تجاهها، وهذا سبب آخر لتأخرها، فواشنطن التي كانت، كما فهمت باريس، جاهزة لغض الطرف عن التدخل الفرنسي، خاصة بعد أن حملت واشنطن ضمناً تل أبيب فشل جهود كيري في بدايات العام الماضي، بدت أكثر حدة في رفض التدخل الفرنسي خشية أن يعني تراجعاً عملياً في الدور الأمريكي في المنطقة وفي الصراع، وربما أن حلفاء إسرائيل في دوائر واشنطن أدركوا خطورة أن تغسل الإدارة يديها من الصراع ومحاولات حله، لذا فإن الفرنسيين فهموا الرسائل المبطنة من حلفائهم في بروكسل وواشنطن.

 وأياً يكون الحال، فإن رغبة الأوروبيين في عقد مؤتمر دولي بعد مرور 25 عاماً على عقد مؤتمر مدريد في أوروبا قد تكون مشجعاً لدفع المبادرة الفرنسية، لكنها مع التحويرات والتبديلات والملاحظات التي ستوضع عليها ستتحول إلى مجرد ورقة أميركية (وليست أوروبية) أخرى، وما لم يمتلك المجتمع الدولي قوة الضغط والإلزام والإكراه فإن الأمر لن يعدو أن يكون مجرد مبادرة أخرى

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد