كيف يعيش الناس في غزة أو بالأصح كيف يموت الناس في غزة؟ سؤال لم يعد له قيمة بعد تجربة النسيان الطويلة التي عاشتها هذه المنطقة، ولم تعد مقالات البكائيات المطولة ذات جدوى، فماذا يعني آلاف المآسي في بيوت يطحنها الجوع والفقر والمرض أمام جوع السلطة؟ لا شيء، فقد ثبت على مستوى المنطقة العربية أن حياة الناس بلا قيمة أمام نهم الحكم ونحن لسنا استثناء حتى لو كان حكما تحت الاحتلال وتحت الحصار.
قد تهز صورة عجوز يبحث عن بقايا طعام في صناديق النفايات الضمير العالمي ولكنها لا تحرك ساكنا في الضمير الفلسطيني والعربي، وقد تفعل ذلك أيضا صورة لطفل مصاب بالسرطان ولا يستطيع السفر للعلاج وعشرات الصور التي يمكن أن تخرج من غزة والتي تمت المراهنة عليها لإنقاذ هذه المنطقة المنكوبة ولكن بلا جدوى، وبات علينا أن نسلم أن هذا الوضع مرشح لأن يكون وضعا دائما وأن من ينتظر حلا عليه أن ينتظر طويلا فتسع سنوات ستتبعها سنوات أخرى، لا أحد يفكر بحل خارج المصالح الضيقة وهذا لن يتحقق.
معبر رفح لن ي فتح لأنه ينتظر عودة السلطة وحرس الرئيس .. وحرس الرئيس ينتظر أن تتم المصالحة، والمصالحة لن تتم لأن الواقع الناشئ في غزة ليس له علاقة بالسلطة وبإمكانية تواجدها في غزة، ولا زالت حركة حماس تعتقد أن بإمكان السلطة أن تحكم تحت برنامج الحركة ولا زال الناس يعتقدون أن هناك مصالحة حتى الفصائل غير الشريكة بالانقسام، كل ذلك أدى إلى إطالة أمد الأزمة دون التفكير على الأقل بحلول إنسانية تأخذ بيد هؤلاء المساكين.
لا تحتمل أية منطقة في الكون أن تنغلق كل هذا الزمن .. إنه ضرب من الجنون لمجرد التفكير بهذا ولكنه تحقق، كيف؟ إنه سؤال الفشل الكبير عندما فشل الفلسطينيون في توزيع السلطة فامتشقت «حماس» السلاح لتحسم الحوار بالقوة، وإذ بها تسقط وتسقطنا معها لنمضي تسع سنوات نحن وهي لا نفعل سوى الاستغاثة وتسول المساعدات، والسلطة التي خرجت مطرودة من غزة تراقب بتشفي ما حدث لغزة وما أحدثته حركة حماس بنفسها فقد أدارت ظهرها دون أن تساهم بما تسمح به إمكانياتها بالتخفيف عن معاناة من كانوا ضحية هذه المغامرة.
لم يعد الغزيون السابحون على بطونهم يحتملون هذا الضغط والإغلاق من كل النواحي فطالما أن حركة حماس لن تسلم المعابر وأن السلطة لن تتسلم المعابر وأن مصر لن تفتح المعبر لأن الإسرائيلي لن يسمح سوى لفئة محدودة جدا باجتياز حاجز «إيريز» بل أصبح مصيدة للاعتقال كما حدث مع خبير السايبر عويضة علينا أن نبحث عن حل إنساني يتجاوز كل هؤلاء، فالكارثة أصبحت أكبر من المصالح الحزبية وأكبر من صراع الأحزاب على السلطة ..هنا شعب فقد ثقته بالجميع.
منذ فترة قدمت مجموعة تطلق على نفسها «مشروع المساعدة الموحدة» مقترحا بأن أحد الحلول قد يكون عبر الأمم المتحدة من خلال إنشاء مطار في القطاع تديره وتشرف عليه يسمح لسكان القطاع بالتواصل الإنساني مع العالم الخارجي. وقد يكون هذا أفضل الحلول في ظل كل الانسدادات المذكورة والمرشحة للاستمرار طويلا فقد انتظر الناس مصالحة لم تتحقق وشبعوا عن الحديث عن معبر رفح والميناء وغير تلك من الحلول التي بدت وهمية علينا الانتقال للمكان في سبيل إنقاذ ما تبقى من حياة هنا إذا كانت، فغزة هي مجمع كبير للاجئين الفلسطينيين وللأمم المتحدة مسؤولية كبيرة عن حياتهم بما فيها ضمان التنقل.
لقد مارست الأمم المتحدة هذا الدور الإنساني بعد إقامة إسرائيل من خلال مطار صغير أقيم على أرض معبر كارني شرق مدينة غزة كانت تقلع منه رحلتان أسبوعيا تقوم بنقل الفلسطينيين من وإلى بيروت وقبرص. استمر ذلك منذ بداية الخمسينيات حتى توقف عندما أكملت إسرائيل احتلالها العام 67 وقد أوجد حلا إنسانيا معقولا في فترة الخمسينيات والستينيات حتى أن طائرة الزعيم الهندي التاريخي جواهر لال نهرو حطت في هذا المطار مطلع ستينيات القرن لدى زيارته لقطاع غزة. هذا المطار الذي لم تستخدمه القوات المصرية وبقي مقتصرا على الأمم المتحدة لنقل قواتها وللقضايا الإنسانية للأفراد وليس للبضائع.
لماذا لا يتم تكرار التجربة وهذا ممكن إلى حين أن يتمكن الفلسطينيون من إعادة بناء النظام السياسي ما يسمح بإعادة بناء مطارهم الذي دمرته إسرائيل.
في قضية إنسانية مشابهة للغزيين الذين كتبت عليهم كوارث لم تكتب على غيرهم من قبل عندما احتلت إسرائيل الضفة او القطاع في حزيران «النكسة» تقطعت السبل بالكثر من الطلاب الفلسطينيين الذين كانوا يدرسون في الجامعات المصرية وهم كثر بفعل فتح نظام الرئيس عبد الناصر الجامعات أمامهم  بالمجان، تدخل الصليب الأحمر حينها لضمان سفرهم وعودتهم للقطاع من خلال صيغة تواصل مع الأطراف المعنية، هكذا درجت العادة حين تحدث الكارثة، ويوميا يتحرك أسطول مكون من مئة طائرة للأمم المتحدة في مناطق الأزمات الدولية لماذا لا تتدخل الأمم المتحدة للتخفيف من الأزمة المتصاعدة في غزة.
قبل عشرة أيام أثناء وجود منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام نيكولاي ميلادينوف في غزة لمدة أسبوع التقى بأربعة من كتاب الرأي في لقاء مطول استمر ساعتين وكنت واحدا من الذين حضروا اللقاء الذي تناول وضع غزة والقضايا الإنسانية والكارثة المتفاقمة وعلاقتها بالسياسة، كثير من القضايا تم تداولها ومنها قضية مطار للأمم المتحدة  باعتبارها باتت المخرج الوحيد الذي بإمكان الأمم المتحدة أن تجد ممرا إنسانيا آمنا لهذه الكتلة البشرية. أعيد تأكيد الاقتراح للسيد ميلادينوف من جديد وضرورة أن تأخذ الأمم المتحدة الاقتراح بجدية أكبر لأن الأمر قد يستمر تسعة أعوام أخرى بلا مصالحة، أي تسعة أعوام قادمة من الإغلاق، من هنا تنبع ضرورة البحث عن بدائل مؤقتة.
هذا المطار أو المهبط أن تم إنشاؤه بالتأكيد سيخفف من وجع المأساة والتي لا يعرف أحد حدود نهايتها وشكل تلك النهاية، على الأمم المتحدة التدخل باعتبارها لا زالت مسؤولة عن اللاجئين وقضية اللجوء وهي تقوم بدورها في الصحة والتعليم والخدمات فلتكن مسؤولة عن الحركة وهذا لا ينتقص من السيادة المفقودة طبعا فالأمم المتحدة موجودة في كل تفاصيل غزة ومن يرفض فكرة المطار عليه أن يرفض الخدمات الأخرى.
هذا المطار الصغير الذي يسمح ولو برحلة واحدة يوميا يمكن الاتفاق عليه مع السلطة وإسرائيل وحركة حماس أيضا بهدف التنسيق بين الأطراف الثلاثة لتسهيل حركة المواطنين ويكون بإدارة وإشراف الأمم المتحدة كما مطارها السابق وتحت مسؤوليتها الكاملة دون تدخل من حركة حماس كما باقي مؤسسات الأمم المتحدة، وأن حلا كهذا أصبح من الضروري بمكان النظر فيه باعتباره الحل الممكن في ظل غياب الحلول والاستعصاء القائم وفي ظل عدم قدرة الأطراف الفلسطينية على التحرك، علينا البحث لإيجاد حلول تتجاوز الراهن فالناس لم يعدوا يحتملون أكثر والأزمة مرشحة للاستمرار ..!
Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد