أول مرة أدرك فيها معنى أن تعيش في مخيم كان خلال حصة الجغرافيا في الصف الرابع الابتدائي، يومها كان المدرس يقوم بتصنيف التجمعات الحضرية وتقسيمها بين مدينة وقرية وبادية. سألت باستغراب "وماذا عن المخيم؟". رد بطريقة أوتوماتيكية بأن المخيم هو مكان مؤقت، سألت كيف؟ أظن انه احتار ولم يعرف كيف يجيب طفلا يسأل عن كنه هويته التي يحددها المخيم، إلى ذلك الوقت لم أعرف كيف يمكن أن يكون مكان إقامتي مؤقتاً، كما أن صدمتي كانت أنني أعيش في مكان لا يوجد ضمن التصنيفات الراسخة لحياة البشر، بدأ الطفل الذي كنته وقتها يفكر في الحياة المؤقتة وفي المكان المؤقت وفي الانتماء إلى الشيء الذي لا ينتمي إلى بيئة مستقرة.

المخيم الفلسطيني هو السمة الأبرز للحياة الفلسطينية، صحيح أنه شهد الكثير من التحولات والانتقالات سواء على صعيد البنية أو العمران لكنه رغم ذلك حافظ على وجوده كدليل على غياب الحالة الفلسطينية الحقيقية، فمن خيام منتشرة على الرمال أو في حضن الوديان وسفوح التلال إلى بيوت إسمنتية مغطاة بالصفيح ومن ثم إلى بيوت من عدة طوابق حيث توسع سكانه وزاد تعداد الأفراد في الوحدة السكنية الواحدة.

تحولات مهولة ضربت المكان وبدّلت من معالمه وظل يحتفظ بهويته الأساسية لا يتنازل عنها: مخيم. بالطبع يمكن لمن عاش طوال حياته في المخيم أن يتلمس هذه التحولات ويشعر بها، ويرى كيف تحولت الشوارع الرملية إلى طرقات مسفلتة، وكيف تم دفن قنوات المجاري التي كانت تمتد بين الشوارع والأزقة مثل أنهر صغيرة قذرة، داخل الأرض ومدها عبر شبكات تصريف معاصرة.

ومع كل هذا ظل المخيم التعبير الأكثر قسوة على واقع التشرد الفلسطيني، ظل الدليل الدامغ على تمسك الفلسطينيين بحقهم في العودة، بالطبع لا جمال في القسوة ولا امتداح للبؤس ولكن الحياة الفلسطينية والوجود الفلسطيني هو ما يجعل حياة الفلسطيني أينما حل جزءا من سيرته في البحث عن الحق المنشود.

يتميز المخيم الفلسطيني بمجموعة من السمات التي تكشف الكثير من تفاصيل تشكله وفكرة سكانه عنه، فالحارات في المخيم مقسمة حسب القرى والمدن التي هاجر منها أهلها. فسكان كل قرية تجمعوا في حارة واحدة في المخيم، فكل حارة تحمل اسم القرية التي هُجّر منها سكانها، وهكذا فإن المخيم صورة مصغرة عن خارطة فلسطين حيث حمل الكل معهم وجعهم وهواجسهم ونقلوها إلى منفاهم الاضطراري. ثمة أشياء كثيرة يمكن أن يقترحها التأويل السابق لكن المؤكد ان المخيم كما أريد له وكما هو عليه الآن هو الدليل الأكبر على النكبة والشاهد الحي على تفاعلها واستمرارها في الوعي الجمعي كما في المدرك الفردي.

لكن المخيم لم يبق على حاله، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، لكنه ظل يحتفظ بأزقته التي قد لا يزيد اتساع بعضها عن نصف متر، وبيوته المتراصة بطريقة عشوائية بالكاد ترى السماء من شدة التصاقها، وازدحامه الشديد ومدارسه المكتظة، وطرقاته المليئة بالناس طوال الوقت، والرجال والنسوة والشبان يجلسون على عتبات البيوت يتبادلون الأحاديث هرباً من ضيق بيوتهم التي لا يزيد مساحة بعضها على 50 متراً، قد يعيش فيها عشرة أشخاص.

في المخيم تضيع الخصوصية حيث يمكن لك أن تسمع كل ما يدور في بيت الجيران، كما يمكن لعابر سبيل أن يسمع ما يدور بينك وبين زوجتك، لكنْ مقابل ذلك ثمة ألفة وحميمية عالية ونسيج اجتماعي وتضامن نادران.

لكنْ ثمة شيء أساس لم يتغير في المخيم. إنه كونه حالة مؤقتة، إنها العبارة التي صاغ بها أستاذ الجغرافيا هويتي وأنا لم ابلغ العاشرة من عمري عندما قام بتصنيف التجمعات الحضرية، كل شيء في المخيم مؤقت رغم ذلك، فالناس لا تبني بيوتها بطريقة منتظمة، فحين تكبر العائلة ويتزوج أحد أفرادها يقوم الوالد ببناء غرفة فوق السطح حتى تؤوي العريسين، ثم حين يتزوج ابنه الآخر يبني غرفة ثانية وهكذا. وقد يقوم بهدم البيت بعد ذلك وإعادة بنائه من طابقين ثم يضيف غرفة فوق السطح بسبب توسع العائلة، وستكون محظوظاً إذا كان أمام بيتك متر أو اثنان تقوم بزراعتهما بشجرة عنب أو تينة أو ياسمينة تمتد فوق السطح حيث تظلل غرفة صغيرة تجلس فيها مع العائلة في الصيف "مصيف".  كنت دائماً أحسد الجيران الذين لديهم هذه المساحة الصغيرة التي يسمونها "حاكورة" وكنت في طفولتي أتخيلها حقلاً شاسعاً وحديقة كبيرة، بالطبع ضيق المكان وصغره يجعل هذه البقعة الخضراء جنة كبيرة. الآن حين انظر إلى تلك المساحة الضيقة أدرك كيف كان الطفل الذي كنته يبحث عن مقارنة المكان الذي يعيش فيه بأماكن أخرى في العالم خارج حدود المخيم.

هذه الحالة المؤقتة هي ما ميزت المخيم الفلسطيني، حين تسنت لي الفرصة لزيارة أعمامي الذين يعيشون في مخيم الوحدات قرب عمان في الأردن وبعد ذلك زيارة مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان، أذهلني كيف يتشابه المخيم الفلسطيني ويكاد يكون صورة كربونية عن مجسم واحد.

المخيم حالة معنوية في الوعي الفلسطيني، وهو مرتبط بحالة اللجوء السياسي التي يعيشها الفلسطينيون، لقد نجح الفلسطينيون في الحفاظ على اللجوء كحالة رغم التحولات التي طرأت على المخيم كمكان، ففيما بعض المخيمات شوارعها مرصوفة وتنتشر فيها "السوبرماركتات" الضخمة ومحلات الملابس الأنيقة، فإن اللجوء بالنسبة للفلسطينيين هو كارثة سياسية وقعت عليهم، تمثلت في سلب وطنهم، وجعلهم يعيشون حياة مؤقتة حتى يستعيدوا حقوقهم السياسية، وإن تسوية هذه الحقوق واستعادتها وحدها تعني نهاية المخيم.

كتبت مرة بعد زيارة إلى مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان عن التشابه القاسي بين المخيمات الفلسطينية للدرجة الذي يمكن لباحث ما أن يستخلص مجموعة من الخصائص التي تميز المخيم الفلسطيني، إنها الخصائص التي تجعل جباليا مثل الجلزون مثل الوحدات مثل اليرموك (قبل تدميره) مثل عين الحلوة، يجعلهم كلهم المخيم الذي تتفاعل فيه الأحلام الفلسطينية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد