فيما كانت غاية كل ما بات يعرف بالربيع العربي، أو على الأقل من وجهة نظر المواطنين الذين خرجوا للشارع، فإن الديمقراطية باتت الشخص غير المرغوب فيه بعد خمس سنوات من اندلاع شرارة الربيع العربي في هشيم الواقع العربي المرير. الناس حين خرجت للشارع في تونس والقاهرة وطرابلس الغرب وسورية واليمن خرجت من أجل أن تطالب بحريتها الضائعة، من أجل ان تستعيد مقدرتها وحقها في حكم نفسها بعد سنوات من وعقود من الحكم القمعي السلطوي الديكتاتوري الذي نجح في تحويل الدولة إلى دمية في يد فئة وطغمة متنفذة بمقاليد الحكم، وبالتالي حرمان الناس من أن يعيشوا حياة كريمة تليق بهم كمواطنين صالحين في بلادهم.
لكن ومع مرور الوقت تلاشت الغايات الأساسية لخروج الناس وبهتت في خلفية المشهد الدامي الذي طحنت رحاه البلدان التي انتفضت، وحولت حياتهم إلى جحيم. لم يعد الحديث يدور حول ماذا يريد الناس؟ أو لماذا خرجوا من الأساس للشوارع، وفتحوا صدورهم لرصاص الشرطة والجيش ورجالات الطغاة، بل إن آخر شيء يتم ذكره الآن، في استعادة محزنة لكل تجاري الفشل في التاريخ، هو السبب الحقيقي الذي اشتعلت فيه الثورات في العواصم العربية. وفيما لم يتم فقط ركن مثل هذه التطلعات جانباً، فإنه تم استحضار غايات أخرى جديدة ودوافع ومطامع جديدة ظهرت عكست أجندات مختلفة لم تكن في وارد الحسبان حين قرر المواطنون أن يموتوا من أجل يعيشوا حياة أفضل.
ويمكن الآن وبلعبة مثيرة أن نقوم بعملية احصاء للكلمات الأكثر تردداً حين يتعلق الأمر الوضع العربي الحالي لنكتشف أن الكلمة الغائبة ربما هي كلمة ديمقراطية. ستبرز بالطبع عشرات الكلمات الأكثر إثارة التي تطغى على المشهد العربي الآن والتي يتصدرها كلمات مثل حرب وصراع وقتال وقمع وخلافات وتدخلات وما إلى ذلك. أما الكلمة المفتاحية في كل ما يحدث في الربيع العربي فإنها باتت الكلمة الضائعة غير الموجودة من الأصل ربما. ليست لأن ثمة تراجع في أجندات وتطلعات المواطنين، بل لأن الديمقراطية باتت هي الضحية الأبرز للربيع العربي وللحالة العربية في تناقض غريب لكن يمكن فهمه.
فما حدث أن التحول الديمقراطي المرتقب تحول إلى صراع على السلطة. صراع تم التضحية خلاله بتطلعات الناس وأحلامها، بل تم استخدام هذه التطلعات في قمع الناس وفي تحويل وحرف مسار الصراع المجتمعي من صراع على سبل تطوير أجهزة الدولة لتصبح تمثيلية بشكل أكبر وتوزيع الثروة بشكل عادل، وتعزيز مكانة المواطن في سلم أولويات الدولة ومؤسساتها، إلى صراع من يحكم وكيف له أن يحكم ويحرم الآخرين من الحكم. وبالتالي لم يعد صراعاً من أجل تسحين جودة الحكم، الكلمة السحرية في أي عملية تحول ديمقراطي، والتي تعني ضمن أشياء كثيرة تعزيز مقدرة المواطنين على المشاركة في عمليات الحكم والتقرير بشأنها، بل بات صراعاً بين متنافسين على الحكم استخدموا فيه كل شيء غير مباح من السلاح والقتل وتدمير البلاد إلى استجلاب قوات خارجية لتساعد كل طرف في تحقيق مآربه.
وسؤال التدخل الخارجي في عمليات التحول الديمقراطي كان دائماً سؤالاً أساسياً حين يتم الحديث عن تطور وانتشار الديمقراطية، وظهرت الحاجة له عند نقاش موجات التحول الديمقراطي – كما صنفها هنتغتون- وكما حللها دارسو عمليات التحول خاصة في أمريكيا اللاتينية وأوروبا الشرقية بعد ذلك. واعتقد دائماً أن ثمة حاجة لوجود مؤثرات خارجية في عمليات التحول الديمقراطي تساعهم في تعزيز توجه النخبة لتبني استراتيجيات التحول، وتكون عبرها قادرة على دفع فاتورته ربما. لكن النقاش لم يشمل مثلاً فكرة التدخل العسكري من أجل فرض عمليات التحول. ولم يحدث أن قامت قوة في العالم بحمل السلاح من أجل أن تنشر الديمقراطية. وكان يمكن للضحك أن ينفجر لو قال أحدهم إن الولايات المتحدة تتدخل في أميركا اللاتينية في ثمانينات القرن الماضي من أجل تعزيز الديمقراطية، بل للإطاحة بها.
في الحالة العربية وبكثير من الفجاجة كان يمكن سماع أن التدخل في ليبيا جاء من أجل فرض الديمقراطية، أو أن تمزيق سورية جاء من أجل تعزيز الديمقراطية واجبار النظام السوري (الذي لا أحبه) على اجراء انتخابات تضمن مشاركة الناس. النتيجة في سورية مثلاً أن كل دولة في العالم بات لديها شارع في سورية يقاتل باسمها. وفيما جيوش هذه الدول لا تتقاتل فيما بينها، فإن ثمة من يقاتل نيابة عنهم ويمزق سورية بسلاحهم ولكن بأموال العرب. 
حتى حين يتعلق الأمر بالانتخابات فثمة سوء فهم لمكانة الانتخابات في صناعة السياسية وتأسيس النظم المعاصرة. فالانتخابات في أحسن الأحوال يتم النظر لها كحل لمشكلة، فيما يتم تغيب مكانتها الأساسية كحق للمواطن. وأظن أن هذا خطأ أيضاً تقع فيه ماراثونات المصالحة الفلسطينية حيث يتم التعامل مع الانتخابات كمخرج من أجل إنهاء الإنقسام. وإذا كانت مخرجاً فهي أيضاً مادة للإنقسام ذاته إذا رأي طرف أن المخرج بحاجة لتصويب. فيما الحق لا يمكن ولا يجوز لأحد أن يعتدي عليها، بل يجب إعادته للمواطن.
والأمر في الحالة السورية واليمنية والليبية كذلك. الخلاصة المؤلمة لتجربة التحول الديمقراطي العربي يمكن لها أن تضيف الكثير من الدروس لمتابعي التحول الديمقراطي نظرياً، لكنها ستضيف صفحات سوداء في تاريخ السياسة العربية، صفحات تم شطب الوطن والموطن والاجهاز على الدولة من أجل أن يستمر الصراع على الحكم. من المؤكد أن الضحية في كل ذلك هي الديمقراطية التي يبدو أن أحداً لا يرغب فيها، أو أن ثمة اتفاق على تغيبها في كل النقاش حول التحولات العربية.
هناك من يريد أن يذّكرني أيضاً بأن فلسطين كانت ضحية للربيع العربي، وهذا صحيح أيضاً، ولكنه موضوع آخر.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد