مازالت الوحدة الوطنية عندنا في المرحلة الجنينية. كأنها لم تولد بعد، إذ سرعان ما تنهار أمام أي عثرة، وتختنق أمام أول دخان يتصاعد من الموقد قبل أن تشتعل النيران حتى. المرحلة الجنينية تلك هي ما يجعل انهيار التفاهمات الوطنية أسرع من اكتشاف وهم السراب.

وطبيعة الحال أن الوحدة الوطنية تحديداً يجب أن تكون أصلب من الانتماء الحزبي وأكثر متانة من المواقف والتصريحات العابرة. لكن حظنا العاثر كشعب أن تكون وحدتنا الوطنية أبخس الضحايا في نظر تنظيماتنا. وربما يذهب البعض للقول إن الوحدة الوطنية عندنا قد انتهت وأنها لم تعد إلا شعارا من شعارات الزمن الجميل الذي لا يبحث عنه أحد. ومثل الجنين، إذا لم يتم الحفاظ عليه بعناية فائقة والتروى قبل القيام بأي تصرف أو حركة، فقد يقتل قبل أن ينمو. من هنا فإننا وببراعة أفضل الناس في الاجهاز على جنيننا: الوحدة الوطنية.


والأخطر من ذلك أن السياسة الفلسطينية قائمة على الشعارات لا على المواقف والأفعال. إنها سياسة لفظية بحتة. سياسة تصريحات صحافية ونقاشات على الفضائيات. والسياسة اللفظية أو سياسة التصريحات هي النقيض الحقيقي للمصلحة العامة. فنحن نصر على التمسك باللفظ على حساب المعني، وعلى الشكل على حساب المحتوى. فإذا ما صدر تصريح ما، بغض النظر عن أي سياق ورد فيه، أو المناسبة التي قيلت فيها، فإن ذلك سيكون مناسبة هامة من أجل أن «تشتغل» السياسة المحلية وتجد فرصة من أجل أن تتلهى وتتفاعل. لكنه للأسف تفاعل واشتباك مع الذات. وهو ليس اشتباكاً بالمعني الإيجابي بل بالمعني الهدام الذي يقع في باب الاقتتال اللفظي والعنيف. سياسة الشعارات تستخدم الإعلام أداة ليس في تضليل الرأي العام، بل أيضاً في الإضرار بالمصلحة العامة، والمساس وبتبخيس الأهداف الوطنية. إذ أن الأساس في ذلك أن يتم تحقيق أهداف في مرمي الخصم السياسي: التنظيم الآخر.


لنلاحظ الصراع الإعلامي والخطابي والشعاراتي الذي ملأ الصحافة والفضائيات زعيقاً وضجيجاً على إثر تصريحات اللواء ماجد فرج لإحدى الصحف الأميركية. لقد تم تجاوز كل السياقات التي وردت فيها التصريحات والظروف السياسة التي جاءت لتعالجها من أجل أن يتم محاولة المساس بالسلطة. 


ليس أن الرجل أسير وابن شهيد ووالد جريح في الهبة الحالية وبعض ضباطه استشهدوا وهم يشاركون في الهبة الحالية، ولكن أيضاً وعلى أهمية ذلك، أن تلك التصريحات جاءت تنفيساً للضغط الذي تمارسه إسرائيل وحلفائها على الرئيس أبو مازن والسلطة من أجل وقف الهبة الجماهيرية وإدانة العمليات التي تحدث في الداخل وفي الضفة والتي باتت تؤلم إسرائيل بشكل واضح. إسرائيل لم تفلح في جر القيادة الفلسطينية إلى إدانة العمليات والعمل على ما تسميه إسرائيل وقف التحريض. ومن الواضح لو أن السلطة استخدمت هذه القوة المهولة المفترضة في ردود فعل الفصائل على تصريحات اللواء فرج، لكانت الهبة الجماهيرية قد ماتت من أول يوم، وكان السلطة وتنظيمها الأول فتح لم تكن هي صاحبة اليد الطولي في تحريك الناس خاصة بعد خطاب الرئيس في الجمعية العامة. وعلى افتراض هذا التباكي في ردود فعل الفصائل دون فهم حيثيات التصريحات والحاجة لها كجزء من قطع الطريق أمام إسرائيل للتشهير بالسلطة، فإن الأمر يعني أن السلطة التي قدمت أكثر من نصف شهداء الانتفاضة الثانية من قوات أمنها، وفتح تنظيم السلطة الذي قدم أكثر من ثلثي شهداء الهبة الحالية من أبنائها وكوادرها، ليس لها هم إلا ملاحقة التنظيمات ووقف مسلحيها من تحرير فلسطين. وهذا منطق ينافي العقل وينافي الواقع الذي أشرنا له.


والتنافس البلاغي واللفظي الذي تبارزت فيه الفصائل بالرد على اللواء فرج دون حتى الاستماع جيداً لما قال ولا مناقشته مع «فتح»، يدلل أننا أمام سياسة كلمات وعبارات وتصريحات، وليست سياسة الجوهر والمحتوى. هل ننتبه كم نحن ندمن اعتماد الصحافة الإسرائيلية كمصدر لتحديد مواقف الفصيل الآخر، كأننا لا نصدق أنفسنا ونصدق الآخرين. بل إن ما يصدر عنها يتصدر نشراتنا ويصوغ مواقفنا. بالطبع يجب سماع ما يقوله العدو، ولكن حين يتعلق الأمر بنا يجب أن نعتمد سياسة الاستيضاح والتفاهم.  إسرائيل تقرر لنا أن حماس أوقفت أكثر من ستين محاولة لإطلاق الصواريخ، وتقرر لنا أن السلطة تحاول خنق الانتفاضة، وتقرر لنا منسوب حريات العمل الوطني. ونحن لا نملك إلا أن نرد ليس على ما تقوله إسرائيل عن بعضنا بعضاً، بل نتبارى بالشتم والسباب. ولا نسأل بعضنا حقيقة عن الموقف المشار إليه.


أسوأ ما في العلاقات الوطنية الوطنية أنها هشة، وهشاشتها تلك قائمة ليس بفعل عيب طارئ بل هي عن سبق إصرار وترصد. كأننا لا نريد لحالتنا الوطنية أن تنضج بالشكل اللائق، ونصر كما أسلفت على الاعتماد على السياسة اللفظية التي تجعل العبارات أهم من دلالاتها. كان الأجدر بالفصائل أن تطلب توضيحاً حول ما قاله اللواء فرج، وان تستمع بشكل وطني إلى كل المقاصد والغايات التي تسعى لها السلطة وقيادتها في مواجهة الهجمة الإسرائيلية الشرسة. وأظن أننا بحاجة لأن نتفق على «كوود» للعلاقات الوطنية يرتكز على وقف عمل الناطقين الرسمين وعدم الحديث بالشأن الفصائلي الداخلي وبالعلاقات الحزبية على الإعلام. لأننا لا نبرع، حين نفعل ذلك إلا بالمساس بأنفسنا. 


وكنت قد قلت على هذه الصفحة أن الخلافات الداخلية وربما الحروب الأهلية هي مرحلة هامة في مراحل في  تكوين الوطنيات. فالتاريخ يزخر بالشواهد. فعلى ما تسببه الخلافات الداخلية والاقتتال الأهلى من دم ومآسي وما تجلبه من دمار وتفكك في النسيج المحلي، إلا أنها تساهم في خلق الحاجة للبحث عن مخارج وطنية كبرى يتم خلالها صوغ المشترك في وثائق ودساتير ونصوص وطنية تصبح مرجعية الجميع. والتجربة الفرنسية وقبلها الإنجليزية وبينهما الأميركية والإيطالية وغير ذلك من خبرات الشعوب تدلل على أن الخلافات الداخلية ليست إلا مرحلة أساس في الوصول إلى الإجماع الشامل. وعليه فإن الدعوة إلى استثمار الاقتتال الداخلي عبر تجاوزه هي محاكاة للمنطق وبحث عن أفضل السبل التي يمكن لها أن تساهم في تصليب المواقف الوطنية. وليس هذا مديح بالإنقسام. فهو، أي الإنقسام ليس بحاجة لمديح من أحد، إذ أن له عشاق كثر ومريدين يفنون أعمارهم من أجل إطالة عمره. بل هو دعوة لتجاوزه.


وتأسيساً على السابق، وفيما نبحث عن مخارج لاعادة الاعتبار للوحدة الوطنية – المأسوف على شبابها- وتفعيل الحكومة عبر حكومة وحدة وطنية فإن الشيء الذي لا يجب أن يغيب عن بالنا هو طرق تحقيق ذلك وتفادي أي معيقات وتصريحات وشتائم تضر بفرص إنجاز المصالحة الحقيقة. وأن الانجرار وراء ردود الأفعال – وهي لننتبه تأتي على أخبار وتحليلات ترد في الصحافة الإسرائيلية : المصدر المقدس للساسة والتنظيمات الفلسطينية، ليس إلا لخنق الجنين. إنها دعوة للتخلص من سياسة التصريحات والتشائم وتطوير سياسة قائمة على التفاهم والاستيضاح وتقاسم الأدوار.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد