يُنقل عن سقراط في العلاقة بين اللفظ والمعنى ان "اللفظ، أي لفظ، لا يمكن ان يأتي دائمًا حاملًا ذات المعنى في كل حين، فالمفهوم الذي يرمز له اللفظ يتشكل ويتغير مع تغير السياق الذي يأتي فيه"، ومن سقراط الى فلسطين وجدلية الثبات والتراجع في التطبيق العملي، فالثبات لا يتناقض أبدًا مع التحليل المستمر للأحداث والمواقف والمراجعة الدائمة للآليات والوسائل ومدى نجاعتها وصلاحيتها في ملائمة الهدف، فالثابت هو الهدف، والهدف هو فلسطين، وعدم مراجعة الوسائل والتجربة شكل من الإعاقة العقلية. من المعيب اتخاذ الثبات ذريعة للجمود والتحجر أو التكلس، فالثبات بهذا المعنى يحمل مضامين سلبية وليست إيجابية، فالثبات الإيجابي هو الثبات المتوازن، هو الثبات على الهدف، والهدف كما قلنا فلسطين، وفيه تظل فلسطين إبرة الميزان والبوصلة التي تحدد المواقف وتضبط التحركات.

عندما تكون فلسطين هي البوصلة؛ عندها كل ما حولها يجب ان يكون متحركًا بما يخدم اتجاه البوصلة، ليس هناك محاور وليس هناك أوطان وليس هناك شعوب أولى من قضيتنا، وعندما يغرق الجميع من حولك في مشاكلهم؛ عليك ان تبحث وحدك عن كل حليف أو شبه حليف، ففلسطين لا تحتمل فقدان المزيد من الحلفاء، وهذا يفرض على كل من يمثل فلسطين رسميًا أو غير رسمي، حكوميًا أو غير حكومي، مقاومًا أو غير مقاوم، معتدلًا أو متشددًا، يفرض عليه التجرد، فلا يسمح له أن يتحزب أو يشخصن القضية أو يركز على الوسيلة والآلية وينسى الهدف.

الأحزاب تموت ويولد غيرها، ويموت الزعماء ويأتي غيرهم في سياق قضية واحدة لا تتأثر بغيابهم، وهكذا تمتلئ المقابر بالأحزاب والأفكار والأيدولوجيات والكاريزمات ممن كانوا أقل من القضية، وممن اعتقدوا أنهم أكبر منها وأنه لا بديل عنهم، وتستمر القضية وكأنهم كانوا حطبها، والتاريخ - كما يقال - يكتبه الأقوياء، وبعد زوالهم يكتشف التأريخ كم كان ظالمًا ومزيفًا، والتاريخ قليلًا ما ينصف.

المنطقة تمر بحالة سيولة متحركة لا يعلم إلا الله كيف ستتشكل بعد ان سجرت بحارنا العربية والإسلامية، وبعد ان مارت سماؤنا مورًا؛ في هذا الجو المضطرب يأوي بعض الفلسطينيين الى جبال لتعصمهم من الماء، ويتناسى ان فلسطين هي العاصم وسط الأمواج.

قيل ما قيل عن استقلال القرار الفلسطيني، ودفع الفلسطينيون أثمانًا باهظة لقاء ذلك، ولكن، وبحساب النتائج يمكن القول انه الى حد بعيد لم يكن للفلسطينيين قرار مستقل طوال تاريخهم، وكثيرًا ما استغلت القضية الفلسطينية للمتاجرة وقهر الشعوب باسم الثورة والتحرير.

في زمن السيولة المتحركة يفترض من الفلسطيني ان يتمسك بفلسطينيته لا بمحاور قد تتغير أهدافها أو على الأقل تتعدد أهدافها، وهو ما أشار إليه الأمين العام لحركة الجهاد الاسلامي الدكتور رمضان شلح في لقائه الأخير مع قناة "الميادين" ان "سيولة الحالة الإقليمية تنقلنا من الحديث عن محور مقاومة وممانعة الى مشروع مقاومة وممانعة"، بالتأكيد في ظل الحديث الإسرائيلي عن استراتيجية ما بعد سايكس بيكو واستراتيجية ما بعد الاتفاق النووي لا يمكن للفلسطينيين ان يكونوا جامدي التحالف، ولكن الأمر الوحيد الممكن هو الالتصاق بالمشروع المقاوم للاحتلال، ليس هذا تخليًا عن بعض الحلفاء أو شكوكاً في استراتيجيتهم كما تبادر الى فهم البعض، الإسرائيليون أنفسهم يشيرون الى ان المحور الإيراني قد يتشعب ويتسع بعد رفع الحصار عن إيران، ووصولها الى دولة العتبة النووية، هذا الاتساع والتمدد ليس بالضرورة ان يكون ضمن المشروع المقاوم، فدول مثل شرق ووسط آسيا يمكنها ان تكون ضمن المحور الإيراني والحلف الجديد، لكنها لن تقبل ان تعرف نفسها ضمن محور مقاوم لدولة "إسرائيل".

في المقابل؛ لا يمكننا كفلسطينيين ان نتوقع من إيران ان تبني تحالفاتها فقط على أساس مشروع المقاومة في إطار سعيها لتصبح دولة عظمى، بل يمكننا ان نتوقع منها دعم شعبنا في مشروع مقاومته للاحتلال، وأن تكون هي الحاضنة الدولية والأممية لهذا المشروع، كما لا يمكننا ان نعتبر الآخرين - غير المنضوين في الحلف الناشئ - أنهم غير مقاومين، حصر المقاومة في محور يشكل إساءة لمن هم خارج هذا المحور، ومنهم الحريص على سلامة القضية الفلسطينية والداعم لها. من الطبيعي لبعض الدول والقوى ان تقدم الدعم والاسناد للقضية الفلسطينية بطريقتها، وألا تقبل الانضواء ضمن محور قد تتعدد أهدافه.

في الشأن المصري

إن أساس الخلاف الناشئ بين النظام المصري وحركة حماس لم يقم على أساس مقاومة وعدم مقاومة، وإنما نتج عما جرى في 30 يونيو، لم يكن للقضية الفلسطينية شأن في ذلك، وهو شأن مصري داخلي، ومن ضرورات التوازن ألا يقع الكل الفلسطيني حبيسًا لهذا الخصام، وكان يفترض من حركة حماس ان تنأى بنفسها وبالحالة الفلسطينية عن هذا المأزق كما فعلت ذلك سابقًا مع سوريا حافظ الأسد، حين اعتبرت ما حدث شأنًا داخليًا سوريًا وأن فلسطين لها خصوصيتها، بل أصبحت حماس ركنًا رئيسيًا في محور أهم رموزه الرئيس الراحل حافظ الأسد، ويحسب للأمين العام لحركة الجهاد الاسلامي انه رغم صعوبة الظرف يحاول بذل كل جهد لعبور هذه الأزمة، فليس لقطاع غزة والقضية الفلسطينية ان تعيش في جو مشكلة مع مصر، لا بالجغرافيا ولا بالتاريخ ولا بالسياسة، ولا بأي شيء كما قال الدكتور شلح، ومطالبته الدائمة لمصر ان تواصل بسط رعايتها للمشروع الوطني الفلسطيني.

في الشأن السوري

في الموضوع السوري، حافظ الجهاد الإسلامي على توازنه، ولم يقع فريسة التحالفات، وظل يؤكد على ان المخطط لسوريا "ان لا يكون هناك حل، وأن مخرجات الحرب في سوريا ليست إلا غنائم تصب في مصلحة إسرائيل".

وفي الشأن الفلسطيني كان الجهاد الإسلامي وحده محورًا في إطفائه كل حريق فلسطيني تمت السيطرة عليه، ووقودًا في كل حريق لم تتم السيطرة عليه.

لقد تعرض الجهاد الإسلامي - كما حركة حماس - لملاحقة الأجهزة الأمنية الفلسطينية منذ نشوء السلطة، ورغم ذلك ظل يؤكد ان فلسطين أكبر من الجميع، وأن مواجهة العدو هي التي توحدنا في نهاية المطاف.

ومرورًا بالانقسام، إلى اليوم يغيب الجهاد الإسلامي عن دهاليز المصالحة عندما يبداً الحديث حول المحاصصة، من تقسيم ما يسمى الوزارات السيادية حتى ترقيات الموظفين التابعين لكل طرف من طرفي الانقسام، والتكالب على الرواتب. وكذلك يغيب الجهاد الإسلامي عن الساحات عندما تمتلئ بالرايات الحزبية والمناكفات السياسية الجماهرية.

ورغم ان الوساطة والإطفاء وحل النزاعات ليست من مهمة الجهاد الإسلامي، ولا هي جزء من برنامجه السياسي؛ إلا ان قيادات الحركة وأفرادها تعودوا على هذا الدور، وهو بلا شك على حساب اهتمامات أخرى، بل قد يضطرهم الأمر في بعض الأحيان الى اصدار تصريحات قد تبدو تراجعًا عن ثوابت الحركة وأفكارها، ولكنها تأتي في سياق دعم المصالحة الفلسطينية ، وقد يمنعهم هذا الدور من البوح بمواقفهم خشية من تغذية الانقسام.

إن توازن قيادة الحركة لا يمنعها من الاعتراف بالحقيقة: ان المعادلة الاقليمية والدولية لم تبق شرعية ناطقة باسم الفلسطينيين سوى "قيادة منظمة التحرير الفلسطينية"، قد يفهم البعض ان الدكتور رمضان شلح يتراجع عن ثوابت الحركة عندما يؤكد على مشروعية م. ت. ف رغم هرمها وتراخيها، ورغم ان الحركة غير ممثلة بها، ورغم مشروع أوسلو والمعاهدات التي وقعتها قيادة المنظمة مع الاحتلال وغيره؛ ومع ذلك تدرك قيادة حركة الجهاد أن المنظمة هي التي ما زالت قادرة على تمثيل الكل الفلسطيني في الشتات، "عندما نجد ان اللاجئ السوري والعراقي له من يمثله، ولكن قضية اللجوء الفلسطيني التي كانت حية منذ 70 عامًا لم يعد من يمثلها"، ومن هنا رأى د. شلح ان إعادة البناء تتم كما بدأ البناء، فحركة فتح التي كانت البداية "من المجحف ان تنتهي الى هذا المطاف، ولا بد من العودة اليها لإعادة البناء، وعليها هي ان تعيد النظر في مشروعها الذي وصل الى طريقه المسدود بنهاية مشروع حل الدولتين"، ولقد علل هذه الرؤية بأنه في ظل الظروف الدولية والإقليمية الراهنة، فإن تجاوز شرعية أبي مازن يعني تجاوز الشرعية الفلسطينية وفرط عقد هذه الشرعية في كل المؤسسات الأممية، وهذه الشرعية هي التي تمنح أبا مازن القدرة على إعادة بناء حركة فتح وإخراج السلطة من شراكتها للاحتلال ضد المقاومة الى إعادة التوازن للمشروع الوطني الفلسطيني.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد