في غزة ، لا تُقاس المآسي بعدد القنابل وحدها، بل بعدد الأيادي التي مُنعت من تضميد الجراح، وبعدد القلوب التي أُغلقت في وجهها أبواب الرحمة. خطوة جديدة تُضاف إلى سجل طويل من الممارسات الإسرائيلية في حرب الإبادة المستمرة: حظرُ مجموعات واسعة من المؤسسات الدولية غير الحكومية العاملة في القطاع الصحي والإغاثي، وسحب تصاريحها، بحجج أمنية واهية، لتُترك غزة عارية إلا من الألم.

ليست هذه المؤسسات كيانات عابرة، بل شرايين حياة لغزة المحاصرة. منظمات كـ أطباء بلا حدود وغيرها، حملت على عاتقها ما عجزت عنه منظومة صحية منهكة، ومشافٍ استُهدفت مراراً، وإمدادات شحيحة، وكوادر طبية بين شهيدٍ ومشرّدٍ ومنهك. كانت غرف العمليات الطارئة فيها ملاذاً أخيراً للمصابين، وكانت عياداتها المتنقلة أمل الأمهات، وملجأ الأطفال الذين أنهكهم سوء التغذية، وسند كبار السن وذوي الإعاقة الذين يبلغوا الألاف.

يشكّل سحب تراخيص ومنع المؤسسات الطبية والإغاثية من العمل في غزة تهديداً وجودياً مباشراً لحياة ما يقارب مليوني نازح يعيشون أصلاً تحت وطأة حربٍ وحصارٍ وانهيارٍ شبه كامل لمقومات الحياة. فالقطاع الطبي في غزة يعتمد، بدرجة حاسمة، على دعم هذه المؤسسات الدولية التي توفّر الأدوية والمستلزمات تنسق دخولها من المعابر التي تديرها اسرائيل، وتدير غرف العمليات الطارئة، وتسدّ فجواتٍ هائلة خلّفها الاستهداف المتكرر للمستشفيات ونقص الكوادر والإمدادات.

إن تعطيل عمل هذه المنظمات يعني عملياً شلل المنظومة الصحية: توقف العمليات الجراحية المنقذة للحياة، تعذّر علاج الإصابات البليغة، غياب الرعاية التخصصية للأمهات والأطفال وحديثي الولادة، وتفاقم أمراض مزمنة باتت بلا دواء. ومع شحّ دخول المعدات الطبية والأدوية إلى المستشفيات، يتحول المنع إلى مضاعِفٍ للأزمة، حيث تُستنزف المخازن القليلة المتبقية، وتُترك المرافق الصحية عاجزة عن أداء الحد الأدنى من واجبها.

ولا تتوقف المخاطر عند حدود الطب العلاجي؛ فغياب الإغاثة الغذائية وخدمات التغذية العلاجية يهدد بتفشي سوء التغذية، خاصة بين الأطفال والحوامل وكبار السن، ما ينعكس مباشرة على معدلات الوفاة والأمراض. كما أن تعطّل خدمات الصحة النفسية والدعم المجتمعي يزيد من آثار الصدمة الجماعية في مجتمعٍ يعيش النزوح المتكرر وفقدان المأوى والأمان.

إن منع هذه المؤسسات لا يُنتج فراغاً طبياً واغاثياً فحسب، بل يخلق أزمة شاملة في بيئةٍ لا تحتمل المزيد من الانهيار. إنه قرار يدفع المدنيين—لا سيما الأضعف—إلى حافة الخطر، ويحوّل الحق في العلاج إلى امتيازٍ مستحيل، في انتهاكٍ صارخٍ لمبادئ القانون الدولي الإنساني وواجب حماية المدنيين في أوقات النزاع.

بقرار المنع، لا تُغلق مهمات طبيبة واغاثية إدارية فحسب، بل تُغلق أبواب النجاة. يُمنع الجراح من أن يُجري عملية، ويُمنع المسعف من أن يصل، ويُمنع الدواء من أن يطرق باب الجسد المنهك. في لحظةٍ انهارت فيها البنية التحتية الصحية في غزة إلى حدٍّ كبير، يصبح هذا القرار حكماً جماعياً بالموت البطيء، لا سيما على الفئات الأكثر هشاشة: الأطفال، المرضى، الجرحى، واللاجئين.

هذه المنظمات لم تكن تعمل في فراغ؛ كانت تُسعف في الطب الطارئ، توزّع الغذاء حيث الجوع سيد الموقف، تحمي الأطفال من الضياع، تساند اللاجئين في خيامهم، وتمنح ذوي الإعاقة ما يعينهم على الصمود. تجريم عملها ليس إجراءً إداريًا، بل عدوانٌ مباشر على معنى الإنسانية ذاته.

إن منع المنظمات الإنسانية من العمل يُعدّ ضربة قاسية للعمل الإنساني، وانتهاكاً صارخاً لمبادئ القانون الدولي الإنساني التي تضمن حماية المدنيين وحقهم في المساعدة. إنه استهداف للرحمة، وحصار للضماد، وتجفيفٌ لمصادر الحياة في مكانٍ لا يزال ينزف.

في غزة، تُختَبَر القيم لا بالخطابات، بل بالأفعال. وحين يُحاصَر الضماد، ويُجرَّم العطف، ويُمنَع المنقذ من الوصول إلى الغريق، يصبح الصمت شريكاً في الجريمة، وتغدو الإنسانية نفسها على المحك.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد