قيل في مجال الحكمة السياسية: إن الأمم والشعوب لا يمكنها الدخول بنجاح في أي مرحلة جديدة إلّا بعد أن تصفي المرحلة السابقة عليها. فهل انتهت مرحلة، وهل بتنا أمام مرحلة جديدة بعد أن تمت تصفية المرحلة التي عشناها في السنوات الأخيرة؟
جوابي: ليس تماماً بعد، ولكننا نسير بسرعة كبيرة نحو «عملية» شديدة التسارع نحو الوصول إلى المرحلة الجديدة. المرحلة في نهاياتها الأخيرة، ولم يتبقَّ منها سوى الفصل الأخير، لكنه يبدو أنه الفصل الحاسم، ليس من زاوية أن نتائجه يمكن أن تغيّر من اتجاه التطوّر أو وجهته، وإنما من زاوية درجة الصعوبة، أو درجة السلاسة التي ستطلّ علينا بها المرحلة الجديدة.
لو طرحنا على أنفسنا سؤالاً واضحاً ومحدّداً، مباشراً وملموساً حول أعمق جوهر، وأدقّ محتوى في وصف المرحلة التي عشناها في السنوات القليلة الماضية، فبماذا نجيب يا تُرى؟
أظنّ أن أي إجابة، منطقية، موضوعية وعلمية في أدوات قياسها والحكم عليها، منصفة وعادلة في فلسفة رؤيتها والنظر إليها، لا يمكن أن تخرج عن نطاق محاولة المشروع الصهيوني فرض رؤيته على كامل المنطقة مدعوماً من الولايات المتحدة الأميركية، ومستفيداً من درجة تبعية «الغرب» كلّه لتحالف هذا الثنائي العنصري المتطرف، ومستثمراً في واقع عربي عاجز، وفي واقع فلسطيني هشّ ومنقسم، بهدف تصفية القضية الوطنية الفلسطينية من كل جوانبها.
ما زال هناك ممّن لم يرَ بعد هذا الجوهر، وهذا المحتوى، وما زال هناك من يحاول الهروب أو التهرّب من مثل هذا التحديد لأسباب تخصّه وحده، أو تعود لقصور في القدرة، أو في تواجد، في مكان تحجب عنه زاوية الرؤية الصحيحة، أو تعود لمصالحه الخاصة، وتموقعه وتموضعه النابع من هذه المصالح.
نعم يوجد، وما زال يوجد مثل هؤلاء، ومن كل هذه الأنواع، لكن لا يوجد أي جدوى من جدل النقاش والمحاججة معهم، إذ كيف يمكن أن يستقيم النقاش مع من يعتقد أن لعبة الشطرنج ليست سوى لعبة «السّيجة» التي كنّا نلعبها بحبّات الزيتون الجافّة؟
وكيف يمكن أن يستقيم النقاش ما دام مثل هؤلاء يرون في «الغرب» كلّه «الأمّ الرؤوم»، أو أنّ دولة الاحتلال لم يكن لديها من خيارات سوى الانصياع للمجتمع الدولي وإرادته، طالما أننا نستكمل مسار «مقارعته» دبلوماسية؟
أو كيف علينا أن نفهم «أهمية» «السلام الإبراهيمي» و»ضرورته التاريخية» في تطور الإقليم، وفي مستقبله «المزدهر»، وفي مزايا «السلام» الاقتصادي المجرّد من أي نفحة وطنية، أو قومية أو تحرّرية؟
وأظنّ أن بعض مظاهر التيه السياسي ليس سوى الانعكاس المباشر لما تقدّم من التباس وضبابية في تحديد جوهر ومحتوى المرحلة.
إذا صحّت فرضية أن الهجوم الصهيوأميركي»الغربي» لتصفية القضية الفلسطينية كان هو عنوان المرحلة، وأظنّ أنها فرضية قابلة للإثبات في أي مناظرة فكرية جادّة، فإن ما أشرنا إليه من معالم جديدة لمرحلة جديدة تصبح ممكنة من خلال الجواب عن السؤال الذي يكون بديهياً، ألا وهو: هل تمكّن هذا التحالف العنصري، والذي بات له من معالم الفاشية والتوحُّش الكثير، من تحقيق أهدافه من هذه التصفية، أم أنه ما زال يحاول بكل ما ملكت يداه، أم بات عاجزاً، وهو يراوح منذ محاولات عدّة فاشلة، أم أنه يعدّ العدّة للفصل الأخير من هذه المحاولات؟ وهنا يستمر التيه، أيضاً.
فهناك من يعتقد، ومن ما زال يعتقد أن هذا الحلف المتوحّش قد «أنجز» هذه المهمّة، وأنه في الفصل الأخير من «التشطيبات» النهائية، وهناك من يعتقد، أو ما زال يعتقد بأن عليه الاستفادة من هذا «الإنجاز» الكبير بالبحث عن مكان له في ترتيبات ما بعده، وهو مهموم ومنشغل بالكيفية التي يجهد بها للبقاء حيّاً على قيد هذا الإنجاز.
في الزاوية المقابلة هناك رؤيا مختلفة، بعيدة عن هذا التيه، وعن هذا الضياع، وعن فقد التوازن والاتّزان.
التحالف المتوحّش لم يتمكّن من طيّ صفحة الحقوق الوطنية، ولم يستطع أن يضعها ويحشرها في دائرة الاحتياجات المعيشية، أو أن يضع أهداف التحرّر الوطني في زاوية الإهمال والنسيان أو الإغفال، وعجز عن حسم الصراع رغم كل الإجرام والإبادة التي مارسها، ورغم أسلحة القتل والدمار والجرائم الإبادية التي استخدمها بحق أبناء شعبنا، ورغم كل «مقوّمات» نجاحه في فرصة هي بكل تأكيد لن تتكرّر له مطلقاً، وبات من المستحيل عليه توفير أي مقوّمات جديدة لفرصة تاريخية كالتي أُتيحت له، وهو يقف مذهولاً أمام فشله الذي بات غير قابل للتجاهل أو التجاوز أو الإنكار إلّا لسببٍ واحد ووحيد، وهو أن الاعتراف بهذا الفشل سيعني الانهيار مقابل الدمار.
ليس هذا فحسب، بل إن الواقع بدا يقول ويُفصح عن نفسه في معادلة جديدة، ولعلّها أُولى بشائر المرحلة القادمة الجديدة، وهي أن الدمار في جانب المشروع التحرّري الفلسطيني، وفي كامل المشروع التحرّري في عموم الإقليم هو مؤقّت، وقابل للترميم، ومقوّمات إعادة النهوض والاستنهاض قائمة في الواقع مقابل أن الانهيار في جانب التحالف المتوحّش هو انهيار تاريخي كبير، إستراتيجي، طال أسس المشروع، وهزّ أركانه في كل ركائزه ومن كل زواياه وجوانبه. ولا يقتصر الأمر على علائم هذا الانهيار، فقد أصبح واضحاً أن الذهاب بعيداً في توحّشه أصبح وتحوّل إلى منعطف فاصل، فهو لا يمتلك عناصر الاستمرار الذي تؤهّله لا للتعويض، ولا لتغيير الوقائع. ولعلّ عنصر الزمن هو النقطة القاتلة في القدرة على استمرار التوحُّش.
ما المقصود بعامل الزمن هنا؟
المقصود أن عودة دولة الاحتلال إلى سابق عهدها السياسي بالعلاقة مع ما كانت عليه قبل دخولها في مرحلة حسم الصراع، وهي تعود بنا إلى أكثر من أربع أو خمس سنوات باتت مستحيلة، وهي، أن دولة الاحتلال تحتاج إلى عقد كامل من الزمن، أو ربّما أكثر من ذلك، حسب تقديرات محايدة، وبالتالي فإن الاستمرار بالتوحُّش المدعوم أميركياً بدأ يستنفد طاقته بالكامل.
والمقصود بعامل الزمن بالنسبة للكيان الكولونيالي أنه قد تحوّل إلى كيان شرّير، موصوم بعار حرب إبادة، مارقة، ومنبوذة، يمارس الدجل والكذب والتضليل، مكشوف في عنصريته، وفاقد للأهلية والمصداقية السياسية على مستوى العالم كلّه، خصوصاً على مستوى كلّ شعوب الأرض، وهو سيحتاج إلى سنين طوال، وربّما قد فقد الفرصة نهائياً للعودة إلى مصاف الكيان الطبيعي، وليس أمامه سوى أن يغيّر من جلده إذا كان يطمح للعودة إلى موقع هو أدنى بكثير ممّا كان عليه.
والمقصود بعامل الزمن أن ما انهار حتى الآن من قوام جيش الاحتلال، وما انهار من قوام تماسك المجتمع الصهيوني، وما انهار من ثقة هذا المجتمع بالجيش، وبالنظام السياسي، وحتى بالدولة نفسها هو أكبر وأعمق مما أن يتم «ترميمه» في زمن قصير، ولهذا فإن عنصر الزمن هنا هو عنصر قاتل في قدرة دولة التوحّش والإبادة على درء مخاطر الانهيار.
وعنصر الزمن بالنسبة لأميركا يبدو على نفس درجة الخطورة والحساسية. عامل الزمن هنا له وجهه الخاص، وهو شديد التأثير والأهمية.
أميركا، و»الغرب» عموماً يعرفون أن العالم يتغيّر، وأن زمن الهيمنة قد ولّى إلى غير رجعة، وأن هناك فرقاً هائلاً بين الهيمنة الحقيقية وبين «هيلمان» الهيمنة، فالشرق قادم، وهو راسخ، وهو عاد ليكون قطباً جديداً موازياً، بدأ بمسار القطب البديل، وهو يسير بثقة بهذا الاتجاه، وهذا هو الجانب الأوّل من جوانب أزمة عامل الزمن لدى «الغرب»، أما الوجه الآخر من جوانب هذه الأزمة فهو خوف أميركا، و»الغرب» كله، من التغيّرات الكبيرة التي باتت تشهدها مجتمعاته، وكيف أن الأمور بدأت بالانقلاب، وأن دولة الاحتلال هي العنصر الحاسم في هذه الأزمة، الأمر الذي يعني أن الاستمرار أصبح خطراً، وأن محاولة وقف هذا التدهور أصبحت ملحّة، وأن الإبادة والتوحُّش لم تعد ممكنة بالطريقة الإجرامية التي سارت عليها، على مدى عامين كاملين، وأن القيادات القادمة في هذه المجتمعات بدأت بالتبلور والتبوّؤ، وبدأت بالحراك الواعي والواثق نحو أدوار لم تكن بالحسبان. هنا عامل الزمن أصبح السيف المسلّط على رقبة «الغرب».
صحيح أن التوحُّش قد يشهد في فصله الأخير درجة غير مسبوقة جديدة، وصحيح أننا يمكن أن نشهد بعض مظاهر الجنون غير المسبوق، رغم كل ما سبق من توحُّش وإجرام، إلّا أن هذا كلّه لا يغيّر من معالم وعلائم المرحلة الجديدة القادمة، وهنا علينا أن نفهم صفة التعجّل الأميركي. سنكتب لاحقاً عن هذه المعالم والعلائم، عن سماتها وصعوباتها، وأبعادها وجوانبها، لكن المؤكّد أن الفصل الأخير من مرحلة الفشل «الغربي»، ومن إخفاق أهداف التحالف الصهيوأميركي لا بدّ أن يكون فصلاً مرعباً من حيث درجة التوحُّش والإجرام.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية
