مرة أخرى، يتم تأكيد المؤكد، إذ يواصل نتنياهو خلق الأعذار ووضع العراقيل التي تجعل التوصل إلى أي وقف لإطلاق النار أمراً مستحيلاً. كما تواصل « حماس » أيضاً الإصرار على أنها تستطيع أن تحقق ما تريد رغم أن كل المؤشرات على الأرض تقول عكس ذلك. وتقول الدلائل متفرقة ومجتمعة، إن إسرائيل استباحت غزة وتواصل تقتيل وتشريد أهلها دون أن يكون لوجود «حماس» أي أثر في وقف ذلك أو حتى في التخفيف عنه. نتنياهو يصول ويجول في العواصم العربية وعواصم الإقليم يقصف ويقتل والعالم يكتفي فقط بالإدانة والاستنكار و»حماس» كأنها لا تفهم ما يحدث. ما يجري ببساطة أن غزة سيتم تهجيرها واستكمال النكبة وإخراج الفلسطينيين بشكل كامل من الساحل كأجدادهم وبالتالي التخلص من مشكلة غزة للأبد، غزة التي حلم رابين أن يصحو ويجد البحر وقد ابتلعها. الحلم أو الكابوس الذي بات يتحقق.

محاولة اغتيال قيادة «حماس» في قطر ليست تطوراً كبيراً كما بدا في الوهلة الأولى، إنها استمرار لسياسة إسرائيل بالذهاب إلى آخر مدى في الصراع دون رادع. لو توفر الرادع ستعد للمليون قبل أن تقوم بأي خطوة. صحيح أن الصراع مع إيران لم ينتهِ وأن الحساب لم يغلق، إلا أن إسرائيل حين وجدت نفسها أمام قوة صاروخية قادرة على المساس بجبهتها الداخلية وبأمنها وأمن سكانها توقفت. في أحيان كثيرة، فإن الربح والخسارة لا يهمان لأن مفهوم الربح متغير وفق المصلحة. صحيح أن إيران خذلت «حماس» وتركتها وحيدة كما تخلت قبل ذلك عن الأسد وعن «حزب الله»، وهي إن فعلت ذلك لا تلام لأنها تبحث عن مصلحتها الوطنية ليس إلا، وأن كل من سبق لم يكونوا إلا أدوات استخدمتها طوال ثلاثين سنة للتأكيد على حضورها الإقليمي ولتواصل إلهاء خصومها وبناء قوتها العسكرية والنووية.

لا يوجد حل سحري لما يجري لأن الحلول السحرية لا تفيد، ما يفيد هو الحلول الممكنة، والحل الممكن الوحيد يعرفه الجميع خاصة «حماس» لكنها تتصرف وكأنها لا تعرفه. إن مجرد التفكير فيما يجري يصيب المرء بالغثيان. انت تفاوض وتتم محاولة قتلك في عقر المكان الذي تفاوض فيه، ولا أحد يضمن أمنك، ثم تطالب بضمانات من طرف هو جزء من منظومة الأعداء، أي الولايات المتحدة، التي ترفض حتى أن تعطيك كلمة، ثم تتصلب وتطالب بأن يتم الخروج من غزة والانسحاب منها، وكأنك قادر إذا ما خرجوا من شارع صلاح الدين أن تمنعهم لو قرروا العودة بعد ذلك. أنت تطلب بالانسحاب إلى حدود تكون قادراً في المستقبل أن تدافع عنها.
ما تطالب به «حماس» ليس بأكثر من استعراض مواقف. تخيلوا، بات قصف موقع لجيش الاحتلال في الشيخ رضوان أو تجمع للدبابات في بني سهيلا حدثا أمنيا مهما وخطيرا يتم تخصيص ساعات من التحليل له، فيما لم يكن الجيش قبل المغامرة الكبرى موجوداً في أي من هذه المناطق. لذلك فإن الحل يكمن بالعودة إلى الأصل، أقصد بتسليم الملف كله لمنظمة التحرير بالتعاون مع جامعة الدول العربية. أما ماذا تفعل «حماس» بنفسها؟ فهي تعرف جيداً ما الذي يجب أن تفعله بعد كل ما جلبته على شعبنا جراء قرارات قياداتها غير المحسوبة والطائشة. لا يمكن أن يكون مصير شعب بأكمله ومصير قضيته بيد مجموعة أو فئة محددة. كما أن تخبئة عشرات الأسرى في مكان أو أماكن لا يعرفها العدو وترك شعب أعزل جائعاً عارياً بلا مأوى وعرضة للقصف والموت ليس انتصاراً. لـ»حماس» تعريف غريب للانتصار يعززه تسحيج المطبلين الذين يعيشون خارج غزة حيث لا يكلفهم الموقف أي شيء ولا يضرهم ما يقولون.  

كما يبدو القول أو مجرد تخيل أن ردة فعل العدو لن تكون بهذه الدرجة من القسوة تبرئة للعدو من كل جرائمه السابقة بحق شعبنا ومذابحه ومجازره التي ارتكبها بحق الفلسطينيين العزل منذ بداية المشروع الإحلالي الكولونيالي في بلادنا. فالعدو لم يغير جلده، ولم يكن أخلاقياً ليتم الافتراض أن ردة فعله لن تكون بهذه الدرجة من الحدة، فمجرد افتراض غير ذلك هو إعفاء له من مسؤولياته عن كل الجرائم السابقة. لذلك فإن العمل الوطني يتطلب دائماً قياس الأثر والنتيجة والفائدة التي ستعود على شعبنا من كل فعل يتم القيام به، كما يتطلب التفريق بين الحق في القتال والنضال وبين مصارعة طواحين الهواء لمجرد أن نقول إننا نقاتل. وفوق كل هذا، كان يجب دائماً إدراك همجية الاحتلال ودمويته ورغبته وتعطشه الشديد لدمائنا. نحن نقاتل مجرما اختزل كل تجارب الإجرام وافتراض أن ثمة قانونا دوليا قد يردعه أو أن ثمة إدانات قد توقفه أو أن ثمة خطا ولو باهتا من الأخلاق قد يتوقف عنده يعكس سوء فهم لطبيعة الصراع ولطبيعة المشروع الصهيوني القائم على التهام الأرض وقتل الإنسان ومحو الذاكرة.

في أكثر من مرة قلت إننا بحاجة لنقاش وطني جامع، وما زلت أقول إننا ننتظر من الرئيس محمود عباس بصفته قائداً للشعب الفلسطيني ورئيساً شرعياً له أن يدعو الفصائل كافة لاجتماع من أجل مناقشة الشأن الوطني العام. يجب عدم ترك الفصائل لهيمنة «حماس» وسيطرتها. «فتح» عمود الخيمة هي من يجب أن تدعو الجميع تحت الخيمة ومن رغب أن يظل خارجها فهو خارجها.

مرة أخرى، ينجح نتنياهو في دفع الحرب للأمام، فهو يعرف ما الذي يقوم به دون تردد. ما زال أمامه قرابة عام، أما نحن فليس أمامنا الكثير من الوقت. أتمنى ألا يأتي يوم نتحدث فيه عن غزة بصيغة الغائب ونشير للمدن الضائعة فنقول يافا وحيفا وعكا وغزة والمجدل وصفد. أتمنى ألا يأتي هذا اليوم، وأتمنى أن تدرك «حماس» مآلات مواقفها قبل فوات الأوان.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد