دائماً ما يكون المقال الأول للكاتب كطفله الأول، أذكر أن مقالي الأول كتبته في نهاية تسعينيات القرن الماضي عن قناة الجزيرة التي كانت تشق طريقها بسرعة في العالم العربي حيث حدث ما يشبه الثورة حينها مع افتتاح عصر الفضائيات الذي بدأ لأول مرة يسمع أو يطل على تعدد الآراء.

أذكر حينها أن مقالي كان ناقداً بشدة للإعلامي السوري فيصل القاسم، فقد استضاف يومها الدكتور عزمي بشارة الذي ظهر كنجم صاعد في عالم السياسة في أراضي الـ 48 يجسد لحظة تاريخية في مجتمع كان بحاجة لقائد، وبدا بشارة يظهر كأنه الزعيم الأب الذي استدعته اللحظة التاريخية في منطقة تجاهلتها اتفاقيات أوسلو، كان بشارة قد رشح نفسه لانتخابات رئاسة الحكومة بعد أن قامت إسرائيل بتغيير قانون الانتخابات بالانتخاب المباشر لرئيس الوزراء في محاولة للتحرر من القوة العربية المتنامية في الكنيست وتجريدها من التدخل في اختيار رئيس الوزراء بعد تجربة أوسلو.

يومها وأنا أتابع المقابلة أشفقت على الدكتور بشارة من سلاطة لسان القاسم التي وصلت حد الإهانة، فقد كان بشارة قدم نفسه معبراً عن الأقلية العربية الكبيرة والمهمشة لمنافسة المرشحين بنيامين نتنياهو وإيهود باراك وكتعبير عن حضورها السياسي وكيانها الاجتماعي والظلم الذي تتعرض له في دولة تكرس تفوق إثنية يهودية.

كان العالم يضع كل جهوده لفوز باراك، صقر حزب العمل، الذي أسدل الستار على عملية التسوية، حينها كان بشارة يهدد حظوظه باقتطاع الصوت العربي فوقع تحت لسان القاسم ...تغير التاريخ وتغيرت التحالفات ...!

انتهت زوبعة إغلاق قناة الجزيرة التي تتهمها السلطة الفلسطينية بالانحياز ضدها.

ولم يكن الأمر يتطلب كثيراً من العناء لاكتشاف هذا الانحياز ليس في الملف الفلسطيني وحده بل لمعظم القضايا العربية، وقد برز ذلك بوضوح شديد أثناء موجة الربيع العربي وتغطياتها واستهدافها لنظم على علاقة سيئة بدولة التمويل بمعايير مزدوجة في كل ما يخص العالم العربي، لم يكن سوى معيار نهج سياسة الدولة القطرية، وأمام ذلك كانت تختل معايير المهنية.

بدأت الجزيرة منتصف تسعينيات القرن الماضي بأداء جديد لدى عالم عربي أنشأ وسائل إعلامه على مقاس الزعيم فأصاب المشاهد بالضجر، وقدمت ما هو مختلف فقد طلب المؤسسون من أمير قطر تمويلاً لمدة خمس سنوات، وكان التصور أن القناة بعد ما ستقدمه من أداء استثنائي يتكئ على خبراء الـ «BBC» الذين كانوا الجيل الأول ستتكفل بالإنفاق على نفسها من دخل الدعايات التجارية التي ستنهال بعد الأداء العالي.

لم تتمكن الجزيرة بعد السنوات الخمس من تمويل نفسها، ولكنها تمكنت من تثبيت حضورها واستولت على الحصة الأكبر في الفضاء العام وقدرة سريعة على التأثير في الرأي العام العربي، ليكتشف الأمير أن قوة بنتاغون عربي وأداة ضاربة وقعت بين يديه ليأمر ب فتح خزائن مال الإمارة التي وصلت موازنتها في عامها الأخير إلى حوالى ملياري دولار، وهو رقم هائل في عالم الإعلام يفوق موازنات دول في إفريقيا.

لم تعد القناة تأبه باتهامها بالتحيز وإسقاط المهنية، فلديها جمهورها الواسع الذي تمكن محترفوها من استقطابه.

فالمواطن يبحث عن الخبر والصورة ولدى الفضائية من الإمكانيات المادية والبشرية ما يوفر إشباع تلك الحاجة.

لكن الحقيقة أن الجزيرة استقطبت أكثر محترفي الإعلام في العالم العربي ولم تكن معاييرها كلها أو جميعها تقوم على الولاء بل على الكفاءة، وليس كما الإعلام العربي برمته الذي ما زال يعتمد معيار الولاء، لذا ما زالت مشاهداته فقيرة ومدافعه ضعيفة أمام مدافع أسطول الجزيرة.

في الصراع مع إسرائيل كانت تغطية الجزيرة تحظى باحترام كبير وقد فقدت عدداً من أفراد طواقمها، بل قامت إسرائيل بإغلاقها.

لكن في الداخل الفلسطيني لم تكن الفضائية مهنية أو حيادية بين حركتي فتح و حماس ، ويعود ذلك لعدة أسباب منها: أن الدولة القطرية تبنت بشكل كامل حركة الإخوان المسلمين في المنطقة التي ظنت أن الربيع العربي سيحملها لحكم الدول، وبالتالي تصبح الإمارة دولة إقليمية مهيمنة، لذا ساهمت في الإطاحة بنظم وهي تعرف أن الإخوان المسلمين هم الجهة الأكثر منظمة في المجتمعات العربية وقادرة على الفوز بسهولة في الانتخابات، وحماس هي درة الإخوان.

الثانية أن المسؤولين عن الملف الفلسطيني في القناة هم من حركة حماس، غرقوا كثيراً في رواية الحركة وفي الخصومة مع حركة فتح لتصبح كل التقارير على مقاس انتمائهم، وحتى ضيوف القناة كمحللين لا يحتاج المتابع الكثير ليكتشف أن معظمهم من حركة حماس. وترافق ذلك مع صراع بين الحركتين خلال السنوات الماضية ليصبح النيل من فتح وإسقاط السلطة واحداً من أهداف قناة الجزيرة أو موظفيها غير المحايدين وخصوصاً مع ما يحدث الآن في قطاع غزة والتنافس المزمن بين الحركتين وهكذا وضعت نفسها في صدام مع فتح.

ولكن في زمن السوشيال ميديا والقرية الكونية لا معنى لقرار السلطة بإغلاق الجزيرة، بل يعكس انغلاقاً لديها وتضييقاً على الحريات، ففي عالم الإعلام يقدم الجميع روايته ويترك للمتلقي الاختيار كما أي منتج تجاري يختار المواطن الأفضل وهو قادر على التمييز.

وإذا كانت السلطة تنشئ إعلاماً بمعايير بدائية «معايير الولاء» غير قادر على الصمود أمام رواية أخرى عليها أن تبحث كيف تبني إعلاماً لا أن تكمم أفواه الآخرين.

الجزيرة تعمل باحتراف ومن الطبيعي أن يتساقط أمامها المبتدئون والهواة.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد