من يُرد أن يقف عند مفاتيح شخصية الرئيس الأميركي العائد إلى البيت الأبيض بعد 4 سنوات على مغادرته، دونالد ترامب، فعليه أن يعود قليلاً إلى الوراء، ليس إلى ممارسته مهنة التجارة في العقارات، ولكن إلى ما قبل أن ينخرط في عالم السياسة الأميركية، البراغماتية جداً، أو على الأقل قبل أن يحتل مقدمة وسط المسرح السياسي، أي حين كان شاباً، أو حتى رجلاً في منتصف العمر، وليس في أرذله كما هو الآن، ومثلنا العربي الشعبي، «من شبّ على شيء شاب عليه»، ينطبق بالضرورة على ترامب، وترامب سجل في تاريخه ولعه بلعبة المصارعة الحرة، دون أن يمارسها، لكنه اقترب منها لينال منها قسطاً من الشهرة، وهي تعتبر رياضة ترفيه، وما هي بالرياضة، حيث أن «نجومها» هم أقرب إلى المهرجين، فكل ما يقومون به من «ضرب» للخصم، ومن تلقٍّ للضرب، يبدو أنه معد سلفاً وفق «بروفات» جرت في الكواليس قبل العرض.
كذلك لا بد من ملاحظة «تورط» ترامب في علاقات مع ما تسمى ممثلات الإباحية، واللواتي رفع بعضهن عليه قضايا تعويض، فيما تم توظيف بعضهن من قبل الخصوم السياسيين للنيل منه، وكل هذا يعني أن مفتاح شخصية ترامب يدل على أنه «بلا أخلاق» وهو في سبيل متعته الحسية مارس الرذيلة، كما أنه في سبيل تحقيق الزهو الشخصي ذهب إلى حيث التفاهة في رياضة الترفيه «المصارعة الحرة الأميركية»، وقد وصل به الأمر، إلى أن يقوم بتعيين ليندا مكمان زوجة رئيس اتحاد المصارعة الأميركية، وزيرة للتعليم الفيدرالي في حكومته المقبلة، فيما قام بمكافأة أيلون ماسك، الملياردير الشهير، وهو شخص مضطرب الهوية، وقد يدل ذلك على وجهة «القومية» في ظل العولمة الأميركية، فهو يتمتع بثلاث جنسيات في وقت واحد، بعد أن ولد في جنوب أفريقيا من سلالة العنصريين البيض، وهو رجل أعمال كندي، ومتجنس أميركي، وهو بهذه الصفة لا يثير احتجاج ترامب، كما هو حال المتجنسين متعددي الأعراق الأميركيين، لكنه بات صديقه الشخصي بعد أن تبرع له بمئات ملايين الدولارات في حملته الانتخابية الأخيرة.
وقد عيّن ترامب ماسك وزيراً خارج الإطار الحكومي، بمنصب اخترعه له، وهو وزير الكفاءة الحكومية، ليقود ماسك ومعه المرشح الجمهوري السابق فيفيك راماسوامي، وهو من أصل هندي، وربما لهذا السبب، تم استحداث تلك الهيئة لهما، ولم يتم ضمهما بشكل رسمي للحكومة الأميركية، والمهم أن ترامب وجد في أغنى رجل في العالم، أيلون ماسك، حليفاً ورفيقاً وصديقاً، عقد معه أول صفقة له وهو في طريقه إلى الحكم، حصل من خلالها ترامب على التبرع المالي الذي ساعده في العودة للبيت الأبيض، فيما حصل ماسك على «تأهيل» بالانتماء للنخبة الأميركية وتجاوز كونه متجنساً، وإن كان أبيض، فيما ظهر راماسوامي في الخلفية، كما لو كان ظلاً لكمالا هاريس، أي كاحتياطي جمهوري، لمنافس ديمقراطي، وكل التقديرات تشير إلى أن هذين الرجلين، ماسك وراماسوامي في اختبار حقيقي، حيث وعد ماسك بتخفيض الدين العام الفيدرالي إلى الثلث، فإن نجح فإن أبواب البيت الأبيض ستن فتح له على مصراعيها، لخلافة ترامب نفسه، ربما.
يميل ترامب، وهو لن يكون في ولايته الثانية شخصية نكرة، كما كان حاله في ولايته الأولى، بالنظر إلى أن العالم قد عرفه رئيساً من قبل، إلى الاستعراض والتبجح، وعدم الحرص على الظهور كرجل دبلوماسي، أي لا يتورع عن التعبير بشكل تلقائي دون تفكير، وكما لو كان «ابن شوارع»، وهو يسارع إلى فعل ما يعتقد به من أفكار ومعتقدات، كما أنه أناني لا يفكر إلا بنفسه، وبما يحقق له المكاسب الشخصية، وبذلك هو لا يهتم كثيراً بما يمكن وصفه بالقيم الديمقراطية، أو حتى القيم الأميركية، ولا بالقوانين أو الأعراف الدولية، إن وجد في ذلك مصلحة خاصة، ولكن لا بد أيضاً من التمييز بين كونه رئيساً في ولاية ثانية، عنه رئيساً في ولايته الأولى، وهذا حال كل الرؤساء الأميركيين، الذين في ولايتهم الثانية، لا يخشون من أصوات الناخبين، لأنهم لن يترشحوا ثانية، لذلك فعادة ما يتبعون سياسة غير شعبية، أو يقدمون على اتخاذ قرارات حادة، أو صاخبة، تكون مفاجئة في أحيان كثيرة.
صحيح أن الولايات المتحدة، دولة مؤسسات، لكن مع ذلك فإن شخصية الرئيس خاصة تلعب دوراً حاسماً في التفاصيل الصغيرة، وحتى اختياره أصلاً يحدد الوجهة السياسة العامة للدولة، سواء كانت الداخلية أو الخارجية، وإذا كان أهم عامل حدد اختيار ترامب بدلاً من هاريس هو الاقتصاد، فإن أولوية ترامب ستكون السعي إلى خفض النفقات، بتفكيك ما سماه ترامب نفسه البيروقراطية الحكومية، وخفض اللوائح الزائدة والنفقات الباهظة وإعادة هيكلة الوكالات الفيدرالية، وهو يعول بتحقيق ذلك على الثنائي ماسك وراماسوامي، وفي نفس الوقت الحصول على أموال من الخارج، سواء كان عبر رفع الضرائب على البضائع المستوردة، أو «بلطجة» من دول الخليج العربي، كما فعل في ولايته السابقة، ولهذا هو يعتبر أن الصين عدوه الأول أكثر مما هو الحال مع روسيا.
الموقف الملتبس مع ترامب يبقى موقفه تجاه ملفات الشرق الأوسط، فهو رغم أنه يسارع إلى التهديد، لكونه يمينياً محافظاً، بل وحتى عنصري النزعة والميل، إلا أنه يتراجع عندما يرى أن الأمر يمكن أن يصبح جدياً، وهذا ما حدث بينه وبين كيم جونغ أون، مع بدء عهده في ولايته الأولى، وها هو يفعل الأمر ذاته تجاه الشرق الأوسط، حيث أطلق قبل أيام تهديداً مباغتاً، ربطه بالمحتجزين الإسرائيليين لدى « حماس »، وليس بحرب الإبادة، ولا بمخاطر اندلاع حرب إقليمية طاحنة في الشرق الأوسط، ما يؤكد أنه رئيس خفيف الوزن، لا يرى أبعد من أنفه كثيراً، وقد جاء ذلك الإعلان من ترامب بعد قليل على لقائه بسارة نتنياهو زوجة رئيس الحكومة، مجرم الحرب الإسرائيلي بنيامين نتنياهو .
على ترامب أن يدرك جيداً أن العالم اليوم لم يعد عالم ما بعد الحرب الباردة، ولا حتى العالم الذي عليه قبل أربع سنوات، حين كان هو رئيساً، وأن ما واجهه بايدن كان قد واجهه لكونه رئيس الولايات المتحدة، التي بدأت شمسها الكونية في الغروب، وفق منطق الحياة، وأن القصة ليست بتلك البساطة، أي أنه بمجرد أن يقلب وجهة العداء من روسيا إلى الصين، أو من كليهما إلى إيران، فإن الأمر يمكن حله ببساطة، وقد حاول بايدن بتركيزه على روسيا أن يقنع الصين بالتخلي عن علاقتها الخاصة مع روسيا، سواء في بريكس أو غيرها، والأمر نفسه سيحدث مع ترامب، حيث صداقته مع فلاديمير بوتين لن تكفي لفك التحالف بين روسيا والصين، ولا حتى بين روسيا وإيران، كما أن إيران قد تواجهه بما لم يكن في حسبانه، ونقصد امتلاكها للقنبلة النووية، والشرق الأوسط الذي يهدد ترامب بحرقه خاض حرباً متوازنة طوال أكثر من عام مضى، تصدى خلالها لكل ما في جعبة إسرائيل من أسلحة فتاكة، ومعها ثلاث حاملات طائرات أميركية، وكل قوة أميركا وبريطانيا وألمانيا وحتى فرنسا الاستخباراتية بما لديهم من أقمار صناعية، وفشلوا في تحقيق الانتصار العسكري الحاسم على محور المقاومة دون إيران.
وها هي كوريا الجنوبية تظهر تصاعد التوتر مع الجار الشمالي النووي، فيما روسيا تحقق انتصارها ضد أوكرانيا، حيث من المتوقع أن يترافق دخول ترامب البيت الأبيض، مع إعلان ذلك رسمياً ونهائياً، أما بالعودة للشرق الأوسط، فإن نتنياهو اضطر إلى الذهاب لاستراحة المحارب بقبول وقف إطلاق النار في لبنان، وربما يقبل بمثله في غزة ، دون وقف الحرب، لأنه لم يحقق الانتصار، ولأنه يدرك أن انتظار حرب قادمة سيعني هزيمة واضحة لإسرائيل، ما دامت عاجزة اليوم عن تحقيق الانتصار، فلن يكون بمقدورها أن تمنع الهزيمة في المرة القادمة، ويعول نتنياهو، وليس أمامه من خيار آخر، على ترامب الذي عرفه من قبل، وسار به كما يقود «الكلب» الفيل، لكن نتنياهو نفسه لا يفكر بعقل بسبب ما يحيط به من فشل ومن اتهام داخلي بالفساد وخارجي بجرائم الحرب، وبهذا فإن أميركا باتت على مفترق طرق، فإما أن تبدي القدر الكافي من الإقرار بتغير الواقع، وتتراجع عن سياسة الهيمنة، بفرض «الحجر» على هوجائية ترامب، فيما باتت إسرائيل أيضاً أمام لحظة حاسمة، فإما أن تطيح بنتنياهو الذي بات خطراً عليها بدوافع شخصية، أو أن يطيح هو بها إلى لجة الحروب المتواصلة مع الشرق الأوسط كله.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية