بعد مرور أكثر من 400 يوماً على العدوان الهمجي المجرم الذي تشنه قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة ، لا تزال آثار ذلك العدوان المستمر تلقي بظلالها الثقيلة على الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، حيث خلفت تلك المجازر المروعة عشرات آلاف الشهداء جلهم من الأطفال والنساء والشيوخ والمواطنين العزل، كما تم تدمير البنية التحتية وجميع مقومات الحياة في قطاع غزة بشكل كامل، إذ دمرت عشرات المستشفيات ومئات المدارس والجامعات، ومئات آلاف الأبراج والوحدات السكنية، وأجبر أكثر من 2 مليون مواطن على النزوح مما أعاد إلى الأذهان النكبة الأولى في العام 1948م، إلا أن النكبة هذه المرة كانت أكثر دموية وعنفًا، فلم يقتصر الأمر على الدمار المادي فحسب، بل امتد حتة بات يهدد بضياع الهوية الوطنية الفلسطينية ذاتها، واضعًا مستقبلها على المحك في ظل ظروف سياسية وبشرية غير مسبوقة يعيشها الشعب الفلسطيني.

وبالرغم من المآسي الشديدة التي خلفتها النكبة الأولى العام 1948م بما في ذلك تشريد معظم الشعب الفلسطيني عن أرضه، وتدمير المئات من المدن والقرى والتجمعات البشرية، إلا أن أبناء الشعب الفلسطيني تمكنوا من النهوض مجددًا، وحافظوا على هويتهم الوطنية في ظل ظروف بالغة الصعوبة، فقد تمكن الشعب الفلسطيني في أماكن النزوح واللجوء في الشتات وفي داخل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة من إنشاء الكثير من المؤسسات الوطنية التي كان لها الدور البارز في توحيد صفوفه وتعزيز الوعي الوطني خاصة بين الأجيال الجديدة منه. وكان لمنظمة التحرير الفلسطينية دوراً محوريً في هذا الصدد. إذ نجحت المنظمة في تحويل القضية الفلسطينية من مجرد قضية إنسانية وقضية لاجئين إلى قضية شعب يسعى الى التحرر الوطني، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، واستطاعت تحقيق العديد من الإنجازات السياسية على المستوى الدولي، من أبرزها تعريف العالم بالقضية الفلسطينية التي كانت موجودة في جميع أروقة المؤسسات الدولية، وافتتاح سفارات لفلسطين في العديد من دول العالم.

ومع إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، شهد الشعب الفلسطيني سيما في الأراضي الفلسطينية ومخيمات اللجوء حقبة جديدة من الإنجازات التي تمكنت السلطة الوطنية من تحقيقها ومن أهمها تعزيز الهوية الوطنية والحفاظ عليها ونجاحها في إقامة العديد من الرموز الوطنية كان من أهمها: إنشاء مطار غزة الدولي، الذي أصبح رمزًا من رموز السيادة الفلسطينية، كما تمكنت من إعادة مئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني إلى الوطن الفلسطيني، بالإضافة إلى الإرتقاء بالنظامين التعليمي والصحي وأصبح اسم فلسطين حاضرًا في المحافل الدولية، مما رسخ مكانتها كقضية مركزية على الصعيدين الإقليمي والدولي.

لكن هذه الإنجازات لم تصمد طويلاً في وجه التحديات الداخلية التي عصفت بالشعب الفلسطيني، حيث شكل الانقسام الفلسطيني الداخلي عقب سيطرة حركة حماس بالقوة على قطاع غزة ضربة موجعة للوحدة الوطنية الفلسطينية، كما أثرت بشكل سلبي على النسيج المجتمعي الفلسطيني، وتحول التركيز من النضال ضد الاحتلال والسعي لتحقيق التطلعات الوطنية إلى معالجة أزمات يومية شديدة عانى منها المواطن الفلسطيني في غزة قرابة عقدين من الزمان، مثل: نقص الكهرباء والغاز وارتفاع معدلات البطالة في ظل حصار خانق فرضته سلطات الاحتلال على قطاع غزة، مما أدى إلى هجرة عكسية واسعة للشباب الفلسطيني إلى الخارج، خاصة إلى الدول الأوروبية. لم تسلم حتى الموارد الطبيعية في القطاع من تأثير الحصار والإنقسام، إذ تلوثت شواطئ البحر المتوسط بمياه الصرف الصحي، وحُرم السكان من الاستفادة منها، بينما باتت الشاليهات الخاصة المملوكة للبعض ملاذًا لفئة محدودة بأسعار باهظة.

وتعرض قطاع غزة طيلة عقدين من الزمان الى إعتداءات مستمرة من قبل سلطات الاحتلال بدءاً من حرب 2008/2009 مروراً بحروب عدة خلال الأعوام 2012، و2014، و2019، و2021، و2022، وإنتهاءً بالحرب المدمرة المستمرة حتى الان حرب السابع من أكتوبر 2023/2024، والتي باتت بناء على نتائجها الهوية الوطنية الفلسطينية مهددة بالضياع في ظل تآمر عربي وإقليمي ودولي وإعلامي.

على الصعيد الإقليمي، فتحت بعض الدول العربية والأوربية أبوابها أمام هجرة الفلسطينيين، مدعية أنها تقدم لهم يد العون، لكن هذا الدعم المزعوم كان جزءًا من مخطط أوسع لتهجير أبناء الشعب الفلسطيني طواعية وتفريغ الأراضي الفلسطينية من سكانها الأصليين، في إطار مؤامرة تستهدف الهوية الوطنية. وقد لعبت بعض وسائل الإعلام سيما بعض الفضائيات المشبوهة دورًا رئيسياً في هذا السياق، حيث ضخمت تلك الفضائيات من قدرات حماس العسكرية، مما خلق صورة غير واقعية عن موازين القوى، حيث صورت أن دولة الاحتلال مهددة بالزوال أمام قدرة حماس العسكرية خاصة في ظل بعض التصريحات غير المسئولة من أن الفصائل لم تستخدم الا النذر اليسير من ترسانتها العسكرية.

وفي ظل هذه المنظومة المتأمرة، ظهرت أصوات ثلة من المحللين والكتاب والمثقفين التي لعبت دورًا سلبيًا في تشويه الواقع الموجود، حيث إستخدمت بعض الفضائيات المشبوهة هؤلاء المحللين والكتاب المأجورين لتقديم تحليلات وقراءات منحازة ومضللة للأحداث الجارية، مما شكك بالرواية الفلسطينية، وأسهم في خدمة الأجندات الصهيونية والخارجية التي تتقاطع مع مصالح الاحتلال، مما زاد من معاناة الفلسطينيين، وبات يهدد بضياع الهوية الوطنية.

إن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني اليوم من إعتداءات وحشية مجرمة ليس مجرد عدوان عسكري إسرائيلي أو حصار على حركة حماس وفق ما تروج له بعض وسائل الاعلام والمنصات الإعلامية المشبوهة، بل هو محاولة ممنهجة لطمس الهوية الوطنية وتفريغ القضية من مضمونها التحرري.

وفي ظل جميع التحديات التي تعصف بالقضية الوطنية الفلسطينية، يبقى الأمل معقودًا على استعادة الوحدة الوطنية وتوجيه الجهود نحو تعزيز المؤسسات الوطنية لحماية الشعب الفلسطيني وحماية حقوقه الوطنية، وإعادة القضية الفلسطينية لمكانتها في المحافل الدولية. فالهوية الوطنية الفلسطينية ليست مجرد شعار، بل هي جوهر الصمود الفلسطيني، وواجب الجميع الحفاظ عليها ونقلها للأجيال القادمة كجزء أصيل من النضال المستمر.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد